التقوى والأخلاق.. عن زاد رمضان وثمرته
أحمد التلاوي
تجاوز الشهر الفضيل، شهر رمضان الكريم، نصفه، وشارفنا على نهايته.
وبداية؛ فإنه، وبشكل موضوعي؛
لا يوجد في العالم عبادة لها كل هذه الطبائع الثرية المتعددة،
بين ما هو روحاني وما هو اجتماعي، بالإضافة إلى الأصل؛
العبادة، بطبيعة الحال، مثل شهر رمضان، الذي أخذ حيزه
في الاحتفاء والأثر حتى على غير المسلمين في كثير
من المجتمعات العربية التي تعرف تعددية في الأديان
والطوائف التي تعيش فيها.
ويمكن القول إن شهر رمضان يصبغ على المستوى النفسي
والمعنوي للإنسان الكثير من الطبائع، ويترك عليه الكثير من البصمات،
في ظل طول فترة العبادة، وتعدُّد المهام فيها.
ومن بين أبرز سمات رمضان كعبادة، هو طبيعته الجهادية؛
حيث فيه مجاهدة للنفس، وهي أشق ألوان الجهاد،
و من أكثر ما يطبع على الإنسان في حياته من بين أية تأثيرات يمر بها،
عبادة أو غير ذلك من مساقات حياته المختلفة.
فمجاهدة العبد للنفس والهوى؛ لهي بالفعل من أشق الأمور وأهمها،
وأساس كل جهاد آخر، مثل جهاد الكافرين والمنافقين .
وفي هذا الإطار؛ فإننا نقف، في كل عام في حقيقة الأمر،
أمام قضية كبرى، وهي كيف يستفيد الإنسان من شهر رمضان،
وكيف يواصل ما بدأه فيه، فيما بعده.
ويضيف البعض في هذا الصدد، نقطة كيفية تأكيد الإنسان
على عباداته ومغانمه من فضل الله تعالى ونعمه الوفيرة
في هذا الشهر، وكيفية الحفاظ عليها، بالذات في الأيام الأُخَر؛
حيث تزداد المشقة على الإنسان.
وهنا بدايةً؛ لابد من الاعتراف بحقيقة مهمة،
وهي أن المعينات الإلهية في الشهر الفضيل تكون أكبر من غيرها،
وهي حكمة الله عز وجل، ولا نناقشها، ومن ثَمَّ؛
فإن مسألة البحث في كيفية الحفاظ على ما تم زرعه
وجنيه في رمضان، ثم البناء عليه فيما بعده،
هو من الأهمية بمكان بالنسبة لأي مسلم.
وفي جوامع الكَلِم في القرآن الكريم، يقول تعالى:
(وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)
[سُورة "البقرة" - من الآية 197]،
وهي كلمة السر في كل الأحوال، في رمضان وغيره.
والتقوى في صُلْب معناها، هي خشية الله تعالى،
وبالتالي وضعه في الحسبان والاعتبار في كل قول وفعل،
وهو ما لن يكون إلا عن إيمان بأن الله تعالى هو
الإله الواحد لا شريك له، بصفاته وقدرته .
وبالتالي؛ فإن التقوى ليست من المروءة أو فضائل الأعمال والرقائق
كما يظن البعض، بل هي أهم ما يمكن لارتباطها بعقيدة المسلم،
والعقيدة في أبسط صورها، هي معتنق فكري ووجداني،
وقناعة ترسخ في ضمير الإنسان، ومثل ذلك الإيمان؛
حيث الإيمان في أساسه، هو القناعة التي توقر في نفس الإنسان،
وبالتالي تتحرك بها أعماله، وتحكم رؤاه للكون والحياة ودوره فيها،
وعلائقه مع ربه، ومع المخلوقات.
وأول التقوى، كف الأذى وعدم إتيان الأفعال السيئة والقبيحة،
ثم الانتقال بعد ذلك إلى إتيان الأفعال الطيبة التي
أمر الله تعالى ورسوله "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، بها.
وفي القرآن الكريم، وردت تلك المعاني، مترادفة مع حقيقة
مهمة يجب على المسلم أن يضعها نصب عينَيْه دائمًا،
وتكون هي الموجِّه الأساسي والوحيد له،
وهي أنه يجب أن يحذر من الله تعالى وعقابه، وأن يخشاه.
وفي سُورة "آل عمران"، ورد قوله تعالى:
{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} مرتَيْن؛ في الآيتَيْن 29 و30،
وفي سُورة "الأنبياء"، يقول الله تعالى، في الآية (90):
{وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}.
والخشوع لا يأتي إلا من الخشية والتقوى،
وكلاهما لا يتأتى إلا من إدراك قيمة وعظمة
وجبروت من يخشاه الإنسان ويتقيه .
ولذلك؛ فإن الخوف من الله تعالى، وتكريسه في نفس المسلم،
وتحرير هذه النفس من كل خشية أخرى لمخلوق؛
هي أول الطريق نحو التزام الصراط المستقيم، والعمل الصالح..
يقول عز وجل: {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ}
[سُورة "الأحزاب" - من الآية 37].
وهو ما لا ينفصل عن مركزية أخرى فيما يجب أن يتصف به
الإنسان المسلم، وتنسجم مع الفطرة السليمة، وهي الأخلاق.
ولعل أعمق تعبير عن مركزية الأخلاق في دين الإنسان،
هو قول الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم":
"إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق"
[أخرجه "البزار" في مسنده، عن أبي هريرة "رضي اللهُ عنه"].
وصيغة الحديث واضحة لمن يعرفون اللغة العربية وأساليبها؛
حيث جاءت هذه الصيغة في سياق يؤكد على قيمة الأخلاق
كجزء من الدين نفسه، والجزء الأهم بعد الاعتقاد
في وحدانية الله سبحانه وتعالى.
فالنبي "عليه الصلاة والسلام" هنا يتكلم عن نفسه وبعثته،
وبالتالي عن دين الإسلام وعقيدة التوحيد التي نزلت عليه
شريعتها الخاتمة، ولما يقول "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"،
بهذه الصيغة عن الأخلاق؛ فكأنه يقول
إنه لم يُبعث إلا لكي يتمم للناس أخلاقهم في الأصل.
وفي حديث آخر رواه أبو هريرة "رضي الله عنه" كذلك، وصححه الترمذي
وقال حديث حسن صحيح، يقول النبي "عليه الصلاة والسلام":
"أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خُلُقًا"،
وهو كلام واضح وصريح عن مركزية الأخلاق في إيمان الإنسان نفسه.
والأخلاق بجانب كونها معتقدات ذاتية أو وجدانية لدى الإنسان؛
فإن التعبير عنها؛ هو سلوك بالأساس.
فهذا خلقه طيب؛ لأنك تراه "يتعامل" مع الناس بشكل طيب،
و"يميط" الأذى على الطريق، و"يعمل" الصالحات، وهكذا؛
كلها أفعال مقرونة بسلوك الإنسان.
ولو تتبعنا أحاديث النبي "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، عن الإيمان وشُعَبِه؛
سوف نجد أن الكثير من هذه الشُّعَب مرتبطة بأخلاقيات وسلوكيات،
مثل الحياء وإماطة الأذى عن الطريق وإغاثة ذي الحاجة الملهوف.
وغير ذلك الكثير مما يوطد أركان مجتمع سَويٍّ،
وهو من أهم وظائف الأخلاق؛ التأسيس والترسيخ لمجتمعات سليمة مستقرة،
وبالتالي، استمرار العمران البشري، وهو ما ينبئ عن خطورة الأخلاق
بالفعل واستحقاقها هذه المركزية الكبرى في الإسلام.
ومع تجميع كل هذه المعاني المتصلة بهذه المركزيات المعنوية والسلوكية في الإسلام؛
فإن من أهم واجبات المسلم في شهر رمضان،
هو أن يعمِّق في نفسه الشعور بتقوى الله تعالى والخشية منه،
وأن يستغل الأجواء والمعينات التي وفرها الله عز وجل للمسلم فيه،
لكي يمكِّن هذه المعاني من نفسه ، وهو ما سوف يقود إلى أن تأخذ
حيزها في أخلاقياته، وبالتالي سلوكه، وهي أهم الثمرات
التي يمكن أن يخرج بها الإنسان من شهر رمضان.