القرآن والتفسير
ما تفسير قوله تعالى ( ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ) ؟
فضيلة الشيخ : عبد الرحمن السحيم
شيخنا الفاضل
ما تفسير قوله تعالى : " ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم "
لأنه قد اشكل علي معناها
وهل إكراه الفتيات سبب لنيل المغفرة كما هو ظاهر من الآية؟
وجزاكم الله خيراً
الجواب :
وجزاك الله خيرا .
المغفرِة لِمَن أُكِره وأُجِبِر على الزنا ، وهُنّ هُنا الجواري .
قَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِى الْحَسَنِ : غَفُورٌ لَهُنَّ ؛ الْمُكْرَهَاتِ . رواه أبو داود .
قال الإمام البخاري : باب إِذَا اسْتُكْرِهَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى الزِّنَا فَلاَ حَدَّ عَلَيْهَا.
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .
وَقَالَ اللَّيْثُ : حَدَّثَنِي نَافِعٌ أَنَّ صَفِيَّةَ ابْنَةَ أَبِي عُبَيْدٍ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ عَبْدًا مِنْ رَقِيقِ الإِمَارَةِ وَقَعَ عَلَى وَلِيدَةٍ مِنَ الْخُمُسِ ، فَاسْتَكْرَهَهَا حَتَّى افْتَضَّهَا ، فَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ وَنَفَاهُ ، وَلَمْ يَجْلِدِ الْوَلِيدَةَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ اسْتَكْرَهَهَا .
وقال البغوي في تفسير قوله تعالى : (وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يعني للمُكْرَهَات ، والوِزْر على الْمُكْرِه .
وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال : لَهُنّ والله ، لَهُنّ والله . اهـ .
وقال القرطبي في تفسيره : (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ) أي : يَقْهَرْهُنّ .
(فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لَهُنّ (رَحِيمٌ) بِهنّ .
وقرأ ابن مسعود وجابر بن عبد الله وابن جبير (لَهُنّ غفور) بِزِيادة " لَهُنّ " . اهـ .
ويُوضِّح ذلك سَبب نُزول هذه الآية .
فقد روى مسلم مِن حديث جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ : كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ ابْنُ سَلُولَ يَقُولُ لِجَارِيَةٍ لَهُ : اذْهَبِى فَابْغِينَا شَيْئًا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : (وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ) لَهُنَّ (غَفُورٌ رَحِيمٌ) .
وفي رواية أبي داود أن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قال : جَاءَتْ " مُسَيْكَةُ " لِبَعْضِ الأَنْصَارِ فَقَالَتْ : إِنَّ سَيِّدِى يُكْرِهُنِي عَلَى الْبِغَاءِ ، فَنَزَلَ فِى ذَلِكَ : (وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ ) .
وهذا كَقَولِه تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) .
قال القرطبي في تفسيره : لَمَّا سَمَح الله عز وجل بالكُفر به وهو أصل الشريعة عند الإكْراه ولم يُؤاخِذ به ، حَمَل العلماء عليه فروع الشريعة كُلّها ، فإذا وَقَع الإكْراه عليها لم يُؤاخَذ به ولم يَتَرَتَّب عليه حُكم .
وقال : أجمع أهل العلم على أنّ مَن أُكْرِه على الكفر حتى خَشِي على نفسه القَتْل ، أنه لا إثم عليه إن كَفَر وقلبه مطمئن بالإيمان ، ولا تَبين منه زوجته ، ولا يُحْكَم عليه بِحُكْم الكُفر ؛ هذا قول مالك والكوفيين والشافعي . اهـ .
فالإكْرَاه يَقَع على الإجبار والإلْجَاء .
قال الإمام البخاري :
كتاب الإكْراه .
وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى : (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) .
وَقَالَ : (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) وَهْيَ تَقِيَّةٌ .
وَقَالَ : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ)
إِلَى قَوْلِهِ : (عَفُوًّا غَفُورًا) .
وَقَالَ : (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينِ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا)
فَعَذَرَ اللَّهُ الْمُسْتَضْعَفِينَ الَّذِينَ لاَ يَمْتَنِعُونَ مِنْ تَرْكِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ
وَالْمُكْرَهُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مُسْتَضْعَفًا غَيْرَ مُمْتَنِعٍ مِنْ فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : التَّقِيَّةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَنْ يُكْرِهُهُ اللُّصُوصُ فَيُطَلِّقُ : لَيْسَ بِشَيْءٍ .
وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ . اهـ .
وقال ابن قدامة : وَمِنْ شَرْطِ الإِكْرَاهِ ثَلاثَةُ أُمُورٍ :
أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مِنْ قَادِرٍ بِسُلْطَانِ أَوْ تَغَلُّبٍ ، كَاللِّصِّ وَنَحْوِهِ .
وَحُكِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ : إنَّ أَكْرَهَهُ اللِّصُّ ، لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ ، وَإِنْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ وَقَعَ .
قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ : لأَنَّ اللِّصَّ يَقْتُلُهُ .
وَعُمُومُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي دَلِيلِ الإِكْرَاهِ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ ،
وَاَلَّذِينَ أَكْرَهُوا عَمَّارًا لَمْ يَكُونُوا لُصُوصًا ،
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَمَّارٍ : " إنْ عَادُوا فَعُدْ " .
وَلأَنَّهُ إكْرَاهٌ ، فَمَنَعَ وُقُوعَ الطَّلاقِ ، كَإِكْرَاهِ اللُّصُوصِ .
الثَّانِي : أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ نُزُولُ الْوَعِيدِ بِهِ ، إنْ لَمْ يُجِبْهُ إلَى مَا طَلَبَهُ .
الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَسْتَضِرُّ بِهِ ضَرَرًا كَثِيرًا ، كَالْقَتْلِ ، وَالضَّرْبِ الشَّدِيدِ ،
وَالْقَيْدِ ، وَالْحَبْسِ الطَّوِيلِ ، فَأَمَّا الشَّتْمُ ، وَالسَّبُّ ، فَلَيْسَ بِإِكْرَاهٍ ،
رِوَايَةً وَاحِدَةً ، وَكَذَلِكَ أَخْذُ الْمَالِ الْيَسِيرِ .
فَأَمَّا الضَّرَرُ الْيَسِيرُ فَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ مَنْ لا يُبَالِي بِهِ ، فَلَيْسَ بِإِكْرَاهٍ ،
وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ ذَوِي الْمُرُوءَاتِ ، عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ إخْرَاقًا بِصَاحِبِهِ ،
وَغَضًّا لَهُ ، وَشُهْرَةً فِي حَقِّهِ ، فَهُوَ كَالضَّرْبِ الْكَثِيرِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ .
وَإِنْ تَوَعَّدَ بِتَعْذِيبِ وَلَدِهِ ، فَقَدْ قِيلَ : لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ ؛
لأَنَّ الضَّرَرَ لاحِق بِغَيْرِهِ ، وَالأَوْلَى أَنْ يَكُونَ إكْرَاهًا ؛
لأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ أَعْظَمُ مِنْ أَخْذِ مَالِهِ ، وَالْوَعِيدُ بِذَلِكَ إكْرَاهٌ ، فَكَذَلِكَ هَذَا .
والله تعالى أعلم .