أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ" (62) النمل
للآية إشارات باهرة في أكثر من اتجاه، تخاطب بها الإحساس والعقل؛ ففيها دروس في العقيدة، وفي الأصول، ولا تغيب عنها الرقائق، في أسلوب بديع يلامس القلوب فيحثها على صدق الإلتجاء إلى الله سبحانه، ويدعوها للتفكر في نعمائه وقدراته، ويجمع المحامد والثناء في جميع أحوال البشر.
"أمن يجيب المضطر إذا دعاه"، قال القرطبي عن المضطر: "قال ابن عباس: هو ذو الضرورة المجهود. وقال السدي: الذي لا حول له ولا قوة. وقال ذو النون: هو الذي قطع العلائق عما دون الله. وقال أبو جعفر وأبو عثمان النيسابوري: هو المفلس. وقال سهل بن عبد الله: هو الذي إذا رفع يديه إلى الله داعيا لم يكن له وسيلة من طاعة قدمها." فالله هو المرجو عند الشدائد والنوازل، فلا سواه يلجأ إليه المضطرون فيها.
"ويكشف السوء"، قال البغوي: "الضر"، وقال الكلبي: هو "الجور"، وقال البغوي عن قوله تعالى "ويجعلكم خلفاء الأرض": "سكانها يهلك قرنا وينشئ آخر. وقيل: يجعل أولادكم خلفاءكم وقيل: جعلكم خلفاء الجن في الأرض."
"أإله مع الله"، قال القرطبي: هي "على وجه التوبيخ"، والتقدير عنده كأنه قال: أمع الله ويلكم إله، أو إله مع الله يفعل ذلك فتعبدوه.
"قليلا ما تذكرون"، قال الألوسي: "أي تذكرا قليلا، أو زمانا قليلا تتذكرون (...) وما لتأكيد معنى القلة التي أريد بها العدم، أو ما يجري مجراه في الحقارة وعدم الجدوى، ومفعول تذكرون محذوف للفاصلة، فقيل: التقدير تذكرون نعمه، وقيل: تذكرون مضمون ما ذكر من الكلام، وقيل: تذكرون ما مر لكم من البلاء والسرور، ولعل الأولى نعمه المذكورة".
واستنبط الطاهر بن عاشور فوائد أصولية من هذه الآية، ما يمكن اختزالها فيما يلي:
التذكير بتصرفه سبحانه في أحوال الناس، في حال:
1- الاضطرار إلى تحصيل الخير.
2- انتياب السوء.
3- التصرف في الأرض ومنافعها.
هذه الثلاثة لأحوال البشر: حالة الاحتياج وحالة البؤس وحالة الانتفاع:
- الأولى: في قوله تعالى: "أمن يجيب المضطر إذا دعاه"، وهي مرتبة الحاجيات.
- الثانية: في قوله تعالى: "ويكشف السوء"، وهي حالة البؤس، مرتبة الضروري، مثل الكليات وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسب، والمال، والعرض.
- الثالثة: في قوله تعالى: "ويجعلكم خلفاء الأرض"، وهي حالة الانتفاع، مرتبة التحسيني. أ.ه باختصار وتصرف.
بيد أن هذا التأصيل لا ينقص من الأثر العقدي للآية الجامعة، فهذا التدليل إنما يسوق الناس إلى الإيمان أولاً بالله سبحانه، ويقودهم تالياً إلى مزيد من الإيمان عرفاناً من المؤمنين بعظمة الخالق الوهاب، الحنان المنان، الذي لا يغيب فضله عن مؤمن أو كافر، فكما يقول الإمام القرطبي: "ضمن الله تعالى إجابة المضطر إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه، والسبب في ذلك أن الضرورة إليه باللجوء ينشأ عن الإخلاص وقطع القلب عما سواه؛ وللإخلاص عنده سبحانه موقع وذمة، وجد من مؤمن أو كافر، طائع أو فاجر؛ كما قال تعالى: "حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين" وقوله: "فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون فأجابهم عند ضرورتهم ووقوع إخلاصهم، مع علمه أنهم يعودون إلى شركهم وكفرهم." فانظر إلى رحمة الله سبحانه وتعالى التي تدعو كل مسرف إلى الإيمان به، ثم انظر إلى سعة عفوه التي لا يحجبها ذنب مذنب تاب أو مضطر محتاج، يقول د. محمد الربيعة: "تأمل كيف جمع الله بين إجابة المضطر، وكشف الضر، وخلافة الأرض، في آية واحدة "أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض" (...) فهل بعد هذا ييأس مضطر أو مذنب تائب؟!".