اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ" (19) الشورى
تتجلى في هذه الآية معاني التوحيد، وتتبدى العظمة الإلهية والقدرة والإحاطة والعلم، وتظهر العناية والرحمة من الله عز وجل. ومن نور الآية ومن فيض رحمات الله يستقيم طريق المحبة للسالكين من عباد الله سبحانه وتعالى، فمن يتأمل في هذا اللطف الإلهي وهذه الرعاية الواسعة وهذا الرزق الوفير الذي يمنحه قوى لا يخشى مغبة إنفاق عزيز لا يعجزه شيء، تنعقد في قلبه محبة الله عز وجل ووجوب طاعته والذل بين يدي العزيز سبحانه وتعالى.
ولـ"لطيف"، تعريفات كثيرة عند السلف تدور في معظمها حول معان متقاربة، فقال ابن منظور في "لسان العرب": "اللُّطف واللَّطف: البر والتكرمة والتَّحفِّي (...) ومعنى اللطيف - والله أعلم - الرفيق بعباده"، وقال الزجاج : "وهو في وصف الله يفيد أنه المحسن إلى عباده في خفاء وستر من حيث لا يعلمون، ويسبب لهم أسباب معيشتهم من حيث لا يحتسبون".
قال الطاهر بن عاشور: "واللطيف: من يعلم دقائق الأشياء ويسلك في إيصالها إلى من تصلح به مسلك الرفق، فهو وصف مؤذن بالعلم والقدرة الكاملين، أي يعلم ويقدر وينفذ قدرته".
وقد بسط القرطبي أقوالاً عديدة في معنى "لطيف بعباده" ذكرها في كتابه " الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى"، فمنها: "(ما قاله) ابن عباس: حفي بهم. وعكرمة: بار بهم. والسدي: رفيق بهم. ومقاتل: لطيف بالبر والفاجر، حيث لم يقتلهم جوعا بمعاصيهم. والقرظي: لطيف بهم في العرض والمحاسبة. ومحمد بن علي الكتاني: اللطيف بمن لجأ إليه من عباده إذا يئس من الخلق توكل ورجع إليه، فحينئذ يقبله ويقبل عليه. وقيل: اللطيف الذي ينشر من عباده المناقب ويستر عليهم المثالب. وقيل: هو الذي يقبل القليل ويبذل الجزيل. وقيل: هو الذي يجبر الكسير وييسر العسير. وقيل: هو الذي لا يخاف إلا عدله ولا يرجى إلا فضله. (...) وقيل: هو الذي لا يعاجل من عصاه ولا يخيب من رجاه. وقيل: هو الذي لا يرد سائله ولا يوئس آمله. وقيل: هو الذي يعفو عمن يهفو. وقيل: هو الذي يرحم من لا يرحم نفسه".
يقول السعدي: "يخبر تعالى بلطفه بعباده ليعرفوه ويحبوه، ويتعرضوا للطفه وكرمه، واللطف من أوصافه تعالى معناه: الذي يدرك الضمائر والسرائر، الذي يوصل عباده -وخصوصا المؤمنين- إلى ما فيه الخير لهم من حيث لا يعلمون ولا يحتسبون".
قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
وهــو اللطيف بعبده ولعبده *** واللطف في أوصافه نـوعـانِ
إدراك أسـرار الأمـور بخُـبره *** واللـطف عند مواقع الإحـسانِ
فيـُريك عزته ويُبدي لطــفه *** والعبد في الغفلات عن ذا الشانِ
وشرح د. عبدالرزاق البدر في كتابه "فقه الأسماء الحسنى" هذا الفرق بين الاقتران بالباء واللام بقوله: " يقال: "لطف بعبده، ولطف له" أي تولاه ولاية خاصة بها تصلح أحواله الظاهرة والباطنة، وبها تندفع عنه جميع المكروهات من الأمور الداخلية والأمور الخارجية. فالأمور الداخلية لطف بـالعبد، والأمور الخارجية لطف للعبد. فإذا يسر الله لعبده وسهل له طرق الخير، وأعانه عليها فقد لطف بـه، وإذا قيض له أسبابا خارجية غير داخلة تحت قدرة العبد فيها صلاحه فقد لطف له".
وفي قوله "يرزق من يشاء" لمحات، منها ما نقله البغوي عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين قوله: "اللطف في الرزق من وجهين، أحدهما: أنه جعل رزقك من الطيبات، والثاني: أنه لم يدفعه إليك بمرة واحدة (فتبذره). "، ومنها ما ذكره القرطبي في أن "تفضيل قوم بالمال حكمة، ليحتاج البعض إلى البعض (...) فكان هذا لطفا بالعباد. وأيضا ليمتحن الغني بالفقير والفقير بالغني"، ومنها ما قاله الطاهر بن عاشور بعد أن عرّف الرزق بأنه "إعطاء ما ينفع. وهو عندنا لا يختص بالحلال"؛ فقال: "والمشيئة: مشيئة تقدير الرّزق لكل أحد من العباد ليكون عموم اللطف للعباد باقياً، فلا يكون قوله: "من يشاء" في معنى التكرير، إذ يصير هكذا يرزق من يشاء من عباده الملطوفِ بجميعهم، وما الرزق إلا من اللطف".
وقوله: "وهو القوي العزيز" أي: "لا يعجزه شيء"، قاله ابن كثير. وقال الطبري: "وهو القوي" الذي لا يغلبه ذو أيد لشدته، ولا يمتنع عليه إذا أراد عقابه بقدرته "العزيز" في انتقامه إذا انتقم من أهل معاصيه".
واختتمت الآية باثنين من أسماء الله الحسنى تمجيداً واحتراساً من توهم ما، ذكره الطاهر بن عاشور في نهاية الآية وفيه فائدة عظيمة، حيث قال: "وعُطف "وهو القوي العزيز" على صفة "لطيف" أو على جملة "يرزق من يشاء" وهو تمجيد لله تعالى بهاتين الصفتين، ويفيد الاحتراس من توهم أن لطفه عن عجز أو مصانعة، فإنه قوي عزيز لا يَعجز ولا يصانع، أو عن توهم أن رزقه لمن يشاء عن شحّ أو قلة فإنه القوي، والقوي تنتفي عنه أسباب الشح، والعزيز ينتفي عنه سبب الفقر فرزقه لمن يشاء بما يشاء منوط لحكمة علمها في أحوال خلقه عامة وخاصة، قال تعالى: "ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكِنْ ينزِّل بقَدَر ما يشاء"".
منقول