ليقوم الناس بالقسط
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" (25) الحديد
صورة بالغة الوضوح لمنهاج رباني متكامل تقرره الآية العظيمة، التي حوت تبياناً يحدد الغاية، ومقومات الفلاح، ومنائر السبيل.
بهذا الجناس تبدأ الآية بعد التوكيد "أرسلنا رسلنا"، والمقصود الرسل من بني آدم عليهم السلام، قال أبو حيان الأندلسي: "الظاهر أن الرسل هنا هم من بني آدم"، ولقد استشكل على الزمخشري قوله تعالى: "وأنزلنا معهم الكتاب" فقال هم الملائكة"، لكن القول الأول هو المشهور، وقد أوضح أبو حيان أن "معهم": "حال مقدرة، أي وأنزلنا الكتاب صائرا معهم، أي مقدرا صحبته لهم".
"بالبينات": أي بالمعجزات الواضحة، وقال الشوكاني في فتح القدير: "أي بالمعجزات البينة والشرائع الظاهرة"، وقال ابن عاشور: "الحجج الدالة على أن ما يدعون إليه هو مراد الله، والمعجزات داخلة في البينات". وزاد القرطبي أنه "قيل: الإخلاص لله تعالى في العبادة، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، بذلك دعت الرسل: نوح فمن دونه إلى محمد صلى الله عليه وسلم".
"وأنزلنا معهم الكتاب"، قال صاحب أضواء البيان: "الكتاب اسم جنس مراد به جميع الكتب السماوية". وعليه أكثر المفسرين.
"الميزان": قال الطبري: "قال قتادة: العدل، وقال ابن زيد: الميزان: ما يعمل الناس، ويتعاطون عليه في الدنيا من معايشهم التي يأخذون ويعطون، يأخذون بميزان، ويعطون بميزان. يعرف ما يأخذ وما يعطي. قال: والكتاب فيه دين الناس الذي يعملون ويتركون، فالكتاب للآخرة، والميزان للدنيا"، وقال القشيري في "لطائف الإشارات": "أي الحكم بالقرآن، واعتبار العدل والتسوية بين الناس".
"ليقوم الناس بالقسط": أي : أمرناهم بالعدل بينهم، وعليه جمهور المفسرين.
"وأنزلنا الحديد"، قال الشوكاني: "أي خلقناه كما في قوله: وأنزل لكم من الأنعام"، وقد اختلف المفسرون، فجمهورهم على أنه بهذا المعنى المتقدم، وقد استفاض شيخ الإسلام ابن تيمية في تأكيد هذا المعنى في غير موضع من كتبه؛ فقال في كتابه "القرآن كلام الله حقيقة": "النزول في كتاب الله عز وجل ثلاثة أنواع: نزول مقيد بأنه منه، ونزول مقيد بأنه من السماء، ونزول غير مقيد لا بهذا ولا بهذا."، ثم أوضح أن نزول الحديد من النوع الثالث (كإنزال الأنعام والنعاس والسكينة.. الخ). وأن الله سبحانه وتعالى "أخبر أنه أنزل الحديد، فكان المقصود الأكبر بذكر الحديد هو اتخاذ آلات الجهاد منه، كالسيف والسنان والنصل وما أشبه ذلك، الذي به ينصر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.." وزاد في مجموع الفتاوى (كتاب الآداب والتصوف) "والكتاب والحديد وإن اشتركا في الإنزال فلا يمنع أن يكون أحدهما نزل من حيث لم ينزل الآخر . حيث نزل الكتاب من الله (....) والحديد أنزل من الجبال التي خلق فيها ".
وقد ذكر ابن تيمية (في المصدر الأول) أن الأحاديث التي وردت في نزول الحديد مع آدم عليه السلام مكذوبة. على أن موضوع نزول الحديد قد أثير مجدداً في العصر الحديث بعد معطيات علمية ساقها د.زغلول النجار، ووكالة ناسا، وغيرها تشير إلى أن عنصر الحديد ليس من معادن الأرض. إلا أن هذه المسألة محلها بحوث الإعجاز العلمي ونحوها، والمراد هنا تبيان المنهاج الذي جاءت به الآية الكريمة.
"فيه بأس شديد ومنافع للناس": قال الشوكاني في فتح القدير: "قال الزجاج: يمتنع به ويحارب، والمعنى: أنه تتخذ منه آلة للدفع وآلة للضرب، قال مجاهد: فيه جنة وسلاح، ومعنى ومنافع للناس أنهم ينتفعون به في كثير مما يحتاجون إليه مثل السكين والفأس والإبرة وآلات الزراعة والنجارة والعمارة".
"وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز"، قال القرطبي: "أنزل الحديد ليعلم من ينصره. وقيل: هو عطف على قوله تعالى: ليقوم الناس بالقسط أي: أرسلنا رسلنا وأنزلنا معهم الكتاب، وهذه الأشياء ليتعامل الناس بالحق، وليعلم الله من ينصره وليرى الله من ينصر دينه وينصر رسله بالغيب. قال ابن عباس: ينصرونهم لا يكذبونهم، ويؤمنون بهم "بالغيب
أي: وهم لا يرونهم. "إن الله قوي عزيز" قوي في أخذه عزيز أي: منيع غالب".
ولقد خلص الرازي إلى فائدة عظيمة في الآية، حيث قال: "الحاصل أن الكتاب إشارة إلى القوة النظرية، والميزان إلى القوة العملية، والحديد إلى دفع ما لا ينبغي، ولما كان أشرف الأقسام رعاية المصالح الروحانية، ثم رعاية المصالح الجسمانية، ثم الزجر عما لا ينبغي روعي هذا الترتيب في هذه الآية". ثم قال: "المعاملة إما مع الخالق وطريقها الكتاب، أو مع الخلق وهم: إما الأحباب والمعاملة معهم بالسوية وهي بالميزان، أو مع الأعداء والمعاملة معهم بالسيف والحديد".
وعلى ذات المنوال نسج الزحيلي في المنير: "وجه المناسبة بين الكتاب والميزان والحديد في الآية، فإن العلماء ذكروا وجوها سبعة أظهرها: أن الدين إما اعتقادات أو معاملات أو أصول وفروع، والاعتقادات أو الأصول لا تتم إلا بالكتاب السماوي، لا سيما إذا كان معجزا، والمعاملات أو الفروع لا تصلح ولا تنتظم إلا بالميزان وهو العدل، ولا بد من مؤيد يحمي نظم الشرائع، وذلك المؤيد هو الحديد لتأديب من ترك الأصلين أو الطريقين، وهما الاعتقاد ونظام التعامل. وهذا إشارة إلى أن الكتاب يمثل سلطة التشريع، والعدل يمثل سلطة القضاء، وإنزال الحديد يمثل السلطة التنفيذية".
من هذا، يتضح هذا الشمول الذي اتسمت به الآية الكريمة، والاتساع الضارب في أكثر من مسار والممتد إلى غير أفق، لهذا المنهاج الإسلامي الفريد الذي لا يحوي نظاماً للحياة لا يتسلل إليه نقص، ولا يشوبه عوار لا يستثني نظرية يأتي بها كتاب، أو نموذج يأتي به رسول، وأمة تحمل رسالته من بعده تقوم على دربه بالقسط، أو ميزان واضح للعدالة لا يحيد ولا يحيف، أو قوة قاهرة تحمي هذا النظام الباهر، وتحوطه حماية وتبشيراً ونشراً، وعمارة للأرض تستعمل ما أفاء الله عليها من نعم في خلافة الأرض وعمارتها ومنفعتها السلمية.