الحبُّ معنى مُجَرَّدٌ عظيم، يُدْرَك بالذِّهن دون الحواسِّ.
في الكوابيس المخيفة، يُمكن أنْ نُجسِّد وحوشًا من أحاسيسَ مُجَرَّدة
؛ فتجولُ الكراهيةُ في الطرقاتِ بأنيابٍ تقطرُ دمًا،
ويهبط الخوفُ بجناحيْه الجلدييْن في الأزقة الضيقة،
ويغزلُ الحَسدُ شِباكًا لزجة في عنان السَّماء.
إنَّ الحبَّ يمثل ذلك اللون الأبيض بالنسبة للمشاعر،
فهو مُفعَم بأحاسيسَ شَتّى بين الكسل والاضطراب،
تحتشدُ في كلمةٍ واحدة لَطِيفة. والفنُّ هو الموشور الذي يُطلقُها،
ثم يتتبَّع تقلُّبات إحداها أو بعضها، وعندما يفكك الفنُّ هذا
التشابك المتراصَّ من الأحاسيس، يبقى الحبُّ هيكله الوحيد،
ولكن من الصعبِ قياسه أو تحديده.
يقول الجميع: إنَّ الحبَ رائعٌ وضروريٌّ؛
ومع ذلك لا أحد يعرف ماهية الحبِّ على وجه التحديد.
سَمعتُ في إحدى المرات تعليقًا لأحد المعلقين الرياضيين:
«لقد أدى كلَّ المجرداتِ، دعْه يؤدي رقصته».
إنَّ المجتمع الذي نعيش فيه يدفعنا لأنْ نتوارى خجلًا إذا أحببنا،
وبالكاد نعترف بوجوده، بل حتى النطق بهذه الكلمة يجعلنا نتعثر ونخجل،
ولكن ما الذي يجعلنا نشعر بالخجل من عاطفة جميلة وطبيعية؟!
عندما أدرّس طلابي، أكلفهم في بعض الأحيان بأنْ يكتبوا
قصيدة حب -كواجب منزليٍّ، وأقول لهم: «أتقنوا، وتفرَّدوا، وصِفوا
، ولكن دون ابتذال، أو استخدام كلمات جارحة».
جزءٌ من أهداف هذا الواجب أنْ يفهموا كيف يكون الحبُّ طبيعة فينا.
الحبُّ أهم شيء في حياتنا، عاطفة قد نقاتل ونموتُ من أجلها!،
ومع ذلك نحجم عن معرفة حقيقته. وبدون وفرة المفردات،
لا نستطيع أنْ نتكلم أو أنْ نفكر فيه مباشرة. وفي المقابل لدينا
أفعال حادة يؤذي بها البشر غيرهم؛ عشرات الأفعال المتدرجة
باختلاف طفيف عن فعل الكراهية، ولكن من المؤسف أنْ
يكون القليل منها فقط للحبِّ. إنَّ مفرداتنا للحبِّ شحيحة؛
الأمر الذي دفع الشعراء لاستخدام كلماتٍ مبتذلة، أو بذيئة،
أو يعوزها الأدبُ. ومن حُسن الحظ،
قادت هذه الممارسة إلى أعمال فنية إبداعية وغنية، وألهمَت الشعراء
لأنْ يبتكروا مفرداتهم الخاصة، كما حدث عندما أرسلَت السيدة
براونينغ إلى زوجها مِعْدادًا شاعريًّا للحبِّ!
طريقةٌ متكررة لتعبّر من خلاله عن بعض مشاعرها.
ومحبون آخرون يحاولون قياس محبتهم بطرق بارعة؛ ففي قصيدة
جون دون «البرغوث» عندما شاهد البرغوث يمتصُّ دمًا من
ذراعه وذراع حبيبته، ووصف باستعارة تزاوُج دمائهما في
جوف البرغوث.
من المغري أنْ ننظر إلى الحبِّ بأنه متتابع، من الجهالة إلى نور العقل المنير،
ولكن هذا سيكون خطأ؛ فإنَّ تاريخ الحبِّ ليس سُلمًا نصعده
درجة درجة؛ بل إننا مثل البدو الرُحّل، الذين يحملون كلَّ أمتعتهم
معهم أينما رحلوا، إنَّ أمتعتنا ثقيلة، ولا نستطيع أن نَعزل
أيِّ شيء يجعلنا بشرًا. راق لي |
|
|