كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الطيب، ويكثر من التطيب، فقد رَوَى أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حُبِّب إليَّ من دنياكم: النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة"[1].
يقول ابن القيم في تعليل حب النبي صلى الله عليه وسلم التطيب:
لما كانت الرائحة الطيبة غذاء الروح، والروح مطية القوى، والقوى تزداد بالطيب، وهو ينفع الدماغ والقلب، وسائر الأعضاء الباطنية، ويفرح القلب، ويسر النفس، ويبسط الروح، وهو أصدق شيء للروح، وأشده ملاءمة لها، وبينه وبين الروح الطيبة نسبة قريبة، وكان أحد الأشياء المحبوبة من الدنيا إلى أطيب الطيبين صلوات الله عليه وسلامه. وفي الطيب من الخاصية أن الملائكة تحبه والشياطين تنفر عنه، وأحب شيء إلى الشياطين الرائحة المنتنة الكريهة، فالأرواح الطيبة تحب الرائحة الطيبة، والأرواح الخبيثة تحب الرائحة الخبيثة، وكل روح تميل إلى ما يناسبها، فالخبيثات للخبيثين، والخبيثون للخبيثات، والطيبات للطيبين، والطيبون للطيبات، وهذا وإن كان في النساء والرجال، فإنه يتناول الأعمال والأقوال والمطاعم والمشارب والملابس والروائح، إما بعموم لفظه، أو بعموم معناه[2].
ولقد بلغ من حبِّ النبي صلى الله عليه وسلم للطِّيب أنه كان إذا أُهدي طيبًا قبله ولم يرده، بل نهى عن رده، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرد الطيب[3].
وروى الطيالسي والبزار وأبو يعلى بسند حسن عنه قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عُرض عليه طيب قط فرده. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا ترد: الوسائد والدهن[4] والعطور واللبن"[5].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن عُرض عليه طِيب فلا يرده؛ فإنه طيب الريح، خفيف المحمل".[6]
قال القرطبي: المحمل بفتح الميمين، ويعني به الحمل، والحديث يدل على أن رد الطيب خلاف السنة؛ لأنه باعتبار ذاته خفيف لا يثقل حامله، وباعتبار عرضه طيب لا يتأذَّى به مَن يعرض عليه، فلم يبق حامل على الرد، فإن كل ما كان بهذه الصفة محبب إلى كل قلب مطلوب لكل نفس[7].
وقد أخرج مسلم هذا الحديث السابق بلفظ: "مَن عرض عليه ريحان فلا يرده". كما أخرجه الترمذي بلفظ: "إذا أعطي أحدكم الريحان[8]، فلا يرده؛ فإنه خرج من الجنة".
يقول المباركفوري في التحفة: ورواية الجماعة أثبت؛ فإن أحمد وسبعة أنفس معه رووه عن عبد الله بن يزيد المقبري عن سعيد بن أبي أيوب بلفظ: "الطيب". ووافقه ابن وهب عن سعيد عند ابن حبان، والعدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد[9].
قال ابن بطال رحمه الله في بيان الحكمة من ذلك: إنما كان لا يرد الطيب من أجل أنه ملازم لمناجاة الملائكة؛ ولذلك كان لا يأكل الثوم وما يشاكله[10].
ويقول الحافظ في "الفتح" ردًّا على تعليل ابن بطال: "لو كان هذا هو السبب في ذلك لكان من خصائصه، وليس كذلك؛ فإن أَنَسًا اقتدى به في ذلك، وقد ورد النهي عن رده مقرونًا ببيان الحكمة في ذلك في حديث صحيح". يشير رحمه الله إلى الحديث السابق.
وقال ابن العربي: إنما كان لا يرد الطيب؛ لمحبته فيه، ولحاجته إليه أكثر من غيره؛ لأنه يناجي مَن لا نناجي. وأما نهيه عن رد الطيب، فهو محمول على ما يجوز أخذه، لا على ما لا يجوز أخذه؛ لأنه مردود بأصل الشرع.
وقد أنشد بعضهم:
قد كان من سيرة خير الورى
صلى عليه اللّه طول الزمنْ
ألا يَردَّ الطيب والمتكا
واللحم أيضًا يا أخيْ واللبنْ
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أطيب الناس ريحًا من غير تطيب، وإن تطيب يُشم طيبه من بعيد، ويلمس أثره من قريب، وكان طيبه يفوح شذاه، وينتشر عبقه، فكان مَن يجالسه ينشرح له وكأنه في روضة فيحاء، وإذا مسَّ أحدهم ثوبه أو جسده، فإنه يجد ليده ريحًا طيبًا من أثر اللمس، قال أنس رضي الله عنه: ما شممت شيئًا قط، مسكًا ولا عنبرًا، أطيب من ريح رسول الله، ولا مسست شيئًا قط، حريرًا ولا ديباجًا، ألين مسًّا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهر اللون، كأن عرقه اللؤلؤ، إذا مشى تكفأ، وما مسست حريرًا ولا ديباجًا ألين من كف رسول الله، ولا شممت مسكًا ولا عنبرًا أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم[11]. وقال جابر بن سمرة رضي الله عنه: فأما أنا، فمسح خدي، قال: فوجدت ليده بردًا أو ريحًا، كأنما أخرجها من جؤنة عطار[12].
ولقد كان صلى الله عليه وسلم يأخذ من قارورة المسك، فيمسح على لحيته ورأسه، وثبت أنه قال: "طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه، وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه"[13].
وكان المسك أحب الطيب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد قال عنه صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عنه أبو سعيد رضي الله عنه: "هو أطيب طيبكم". كما كانت تعجبه الفاغية، الفاغية: كل نبت له رائحة طيبة. وعن أنس رضي الله عنه أنه قال: كانت للنبي صلى الله عليه وسلم سُكَّة يتطيب منها. السُّكة: وعاء فيه طيب.