تعتز الأمم القوية والحضارات العريقة والثقافات الأصيلة بمقومات ومكونات، وتذود عنها المخاطر صغيرها وكبيرها، وتسعى إلى تعميم نموذجها بقوة العلم أو السلاح أو المال، وما العولمة إلا فرض لأسلوب حياة وطريقة عيش، ومنهاج ثقافة ونمط تفكير؛ ولذا أنفت من النموذج الأمريكي أقرب النماذج الغربية إليه حفاظًا على خصوصيتها وفرادتها.
ونحن أهل الإسلام أصحاب حضارة عميقة متجذرة، أساسها دين قويم، وسنن لغة فصيحة مشرقة، ومضامين تاريخ ناصع مزدهر بالعدل والسمو، ومن أحكام ديننا، وأسماء لغتنا، وحوادث تاريخنا، ما يرتبط برباط وثيق مع التقويم الهجري القمري، فرمضان والحج والعيدان والأشهر الحرم ومعرفة أيام الكفارة والعدة والنذور لا تكون إلا بحساب قمري اعتاده العرب، وجاء الإسلام ليزيده ثباتًا ويمنحه شرعية دائمة.
ومن المواسم الهجرية التي يعجز عنها تشرين وكانون كما يتقاصر دونها يناير ويوليو الأشهر الحرم وهي أربعة: ثلاثة سرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم؛ وشهر مفرد هو رجب، ويبدو أنها سميت حرمًا؛ لأن الله جل وعز حرم القتال فيها بين الناس؛ ولأجل ذلك وصفت بأنها حرم؛ أي جمع حرام، واتخذتها العرب في جاهليتها موسمًا لتجارتها وأسواقها؛ فالاقتصاد ينمو ويزدهر تحت ظلال الأمن والسلم.
ثمّ ورد ذكرها في التنزيل الحكيم في غير سورة وآية، منها قول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ﴾ [التوبة:36]، وقوله تقدست أسماؤه: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِير﴾ [البقرة:217].
فدلت هذه الآيات على حرمة القتال فيها، واختلف العلماء في بقاء حرمتها أو نسخه على قولين، فرأي الجمهور: إنّها نسخت، وبالتالي فتحريم القتال فيها منسوخ، وللمسلمين أن يُجاهدوا عدوهم في الأشهر الحرم، وقال بعض أهل العلم: إنها باقية ولم تُنسخ، وأن التحريم فيها باقٍ ولا يزال، وهذا القول تسنده آية النّسيء في سورة التوبة، وما فيها من تشنيع على صنيع الجاهلية، وتأكيد على حرمة هذه الأزمنة، وانتصر الإمام ابن القيّم لهذا الرأي، ووصفه الشيخ ابن باز بأنه الأظهر من حيث الدليل.
واجتمع كلام أكثر العلماء على ما روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما بما معناه أن الظلم في الأشهر الحُرُم أعظم خطيئةٍ ووِزرًا من الظلم في غيرها، واستنتج آخرون من تحريم ظلم النفس فيها أن الحسنة خلالها أعظم؛ لأن الحسنات والسيئات تتعاظم حسب الزمان والمكان، وياله من فضل كبير على الأمة أن يجعل الله الحسنة في ثلثها مضاعفة يتسارع إليها الناس حسب طاقتهم، والسيئة ثقيلة يتباعد عنها المؤمنون ويتحاشون مقارفة شيء منها.
ومن إجلال هذه الأشهر وتعظيم القتال والظلم فيها أن منحت أسماء ذات دلالة على مقصدها الأسمى، فمحرم فيه تأكيد على حرمة الشهر لأنه من أكثر الشهور تعرضًا للنسيئة من قبل بعض الكفار في الجاهلية، ورجب من الترجيب والتعظيم حتى وصف بالأصم فلا ينادى فيه للقتال ولا يسمع فيه صوت سلاح، وذو القعدة فيه قعود عن الاقتتال والمعارك، وذو الحجة مختص بالحج والمناسك، ويلتفت الناس فيه للكعبة دون سواها.
ولم تسلم هذه الفترات الزمنية العامرة بالسلم والأمن من محاولات التضليل والتلبيس والتحايل من الكفار في جاهليتهم كعادتهم بالتآزر مع إخوانهم المنافقين في كل زمان ومكان، وجاءت آيات الذكر الحكيم فاضحة لهذا المسلك المعوج بقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [التوبة:37]، وحين أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن هذه الأشهر وصف شهر رجب المنفرد عن بقيتها بما يمنع العبث فيه، فالكتل المناوئة للشريعة الربانية سادرة في غيها ومستمرة في عدوانها لتغيير أحكام الزمان والمكان من أي منفذ يبدو لهم مالم ينفر من الأمة عدولها لبيان الحق والدعوة إليه والدفاع عنه، ولسوف يسألون!
لذلك بشر النبي صلى الله عليه وسلم سامعيه والأمة من ورائهم في حجة الوداع بأن الأمر قد عاد كما خلقه الله مستقيمًا على طريق واضح، وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ شَهْرُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ"، وأغلقت الشريعة بذلك الباب أمام أي تغيير وتبديل، فالزمان ثابت ثبات المكان، والأحكام معروفة مهما اجتهد أهل التأويل الباطل والتحريف في قلبها وصرفها عن مراد الله سبحانه وتعالى.
ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة، إلا أنه لم يبادر إلى الحج تلك السنة، وأوفد في السنة التاسعة التي تلي عام الفتح أبا بكر رضي الله عنه أميرًا للحج، فلما تطهرت مكة من الأصنام وبقايا الجاهلية وأوثانها، وأصبح جوارها مستسلمًا لأمر الله، مؤمنًا بالنبي عليه الصلاة والسلام، متبعًا لرسالته، ونُبذت إلى الناس عهودهم قطعًا للخيانة، وإنهاءً لأيّ أمان ممنوح لمن لا يستحقه، وأضحت السبل آمنة إلى البيت العتيق، ثم اكتملت منظومة الإصلاح باستدارة الزمان كهيئته عندما خلقه الله، خرج النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في حجة تاريخية، وموسم مشهود، ليجدد نداء أبيه إبراهيم عليهما السلام، ويفتح طريقًا إلى الكعبة يتقاطر إليه المسلمون من كل فج عميق ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.
وفي هذه الأشهر مواسم لأعمال شريفة كثيرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع مرات جميعها في ذي القعدة، وخلال شهر ذي الحجة عشرة أيام تجتمع فيها كثير من العبادات والقربات مالا تجتمع في غيره، حتى روى البخاري في صحيحه عن النبي عليه الصلاة والسلام قوله: "ما العمل في أيام أفضل منها في هذه" قالوا: ولا الجهاد؟ قال: "ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء"، وفي ذات الشهر يوم عرفة، وعيد الأضحى وهو يوم الحج الأكبر، ويوم القر أوّل أيام التشريق، وهذه الأيام الثلاثة: الحج الأكبر، وعرفة، والقر، أفضل أيام السنة كما روي عن بعض العلماء، وكم فيها من غفران وحسنات، وإذلال للشيطان وحزبه.
كما روى عن فضلها مسلم في صحيحه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصيام، بعد رمضان، شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة، بعد الفريضة، صلاة الليل"، وفي المحرم يوم عاشوراء الذي أنجى الله فيه موسى وقومه من فرعون وجنوده. ولم يسلم شهر رجب من ابتداع ودعاوى لا يسندها دليل، ولا يعضدها نقل صحيح، بل قال الإمام ابن حجر في أحد كتبه: "لم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه ، ولا في صيام شيء منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة"، ومن الواجب على الدعاة والناصحين تبصير الأمة بأن السنة كلها موسم للعبادة ولم يرد نص خاص منطوق لأيّام غير رمضان وعشر ذي الحجة وصيام الاثنين والخميس وفضل الجمعة، وبالمفهوم يضاف إليها الأشهر الحرم كما ورد آنفًا.
وهذه الأشهر فرصة لتعظيم شعائر الله على مستوى الافراد والمجتمعات والدول استجابة لأمر الله سبحانه وتعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوب﴾ [الحج:32]، ومخرج آمن لإنهاء الحروب والصراعات التي ابتلي بها عالمنا المسلم في أقطار كثيرة، وإيقافها ثلاثة شهور سيكون مدخلًا لصلح دائم، وطريقًا لإيقاف سفك الدماء والكفّ عن إهلاك الحرث والنسل، وهي فترة مناسبة لتربية الناس على الطاعات واجتناب المعاصي، وإشاعة التآلف وإحياء معاني المودة وشعور الجسد الواحد في أمة انقسم جسدها إلى أجزاء تكاد أن تفقد معنى الحياة والوجود، وحين تسكن النفوس في ثلاثة شهور متوالية أو أربعة خلال العام؛ فسوف تعتاد على السلم والتعايش، وتبتعد عن الظلم والعدوان، ولا ترفع سلاحًا إلا لأخذ حقها إذا أعجزتها الحيل، أو الدفاع عن نفسها إذ حاول العدو ابتداء القتال أو النهب أو الظلم أو الاستعلاء، وكم في استسلامنا لأمر ربنا من نجاة وفوز عاجل وآجل.
ألا ما أعظم هذا الدين الذي عمد إلى تقصير أمد الحروب بإيجاب السلم في ثلث السنة، وإحاطة موسم الحج المحرّم بشهر حرام قبله وشهر حرام بعده حتى يأمن الناس، ويؤدوا الفريضة دون حمل هم الأمن فيها، ففريضة الحج عبادة محاطة بالسلم والسلام وأحكامهما إن في زمانها، أو في مكانها، أو في آثارها على الفرد حين تمنحه من العزة ما يأبى معه أي ظلم أو هوان.