الرحيل لاشك أنه أمر شديد قاسى الشدة .. فراق بعد لقاء .. أن تأتى لحظة فيرحل الواحد
منا عن أهله .. عن بيته .. عن أولاده .. عن سيارته .. عن ثيابه .. عن بريده
الإلكترونى .. أن يصير ذكرى .. أن يحمل لقب جديد غير كل ألقاب الدنيا .. شيىء مفزع مرعب أن نفارق من نحب ..
ولكنى لم أتزوج .. لم ابنى بيتى الجميل .. لم أحقق أحلامى .. لم أستمتع بأولادى .. كلمات
وغيرها من كلمات نراها ونسمعها ونشاهدها ونعيشها ، ولكنها فى النهاية لا توقف موكب الرحيل الذى لا يتوقف ..
والغريب أنه مع اختلاف البشرية على أشياء كثيرة ولكنها اتفقت على الرحيل .. على كونه
لزاماً أن يحدث .. أن يكون .. أن يأتى .. ولكن ما امتاز به سلفنا الصالح استعدادهم لهذه
الفكرة .. جهدهم فى صناعتها .. حركتهم نحوها .. تفكيرهم فيها .. كان الرحيل نقطة
إرتكاز حياتهم .. يصحون وينامون وهم فيها يعيشون ومن أجلها يتحركون . فلا يهنأون فى دنياهم وأنّا لهم ذلك فالرحيل شغلهم الشاغل ..
وانظر معى إليه صلى الله عليه وسلم وهو نائم على حصيره – التى أثَّرت في جنبه وظهر
أثر خشونتها على جسده الشريف - .. لا دنيا تشغله .. ولا بيت واسع يلهيه بنائه .. ولا
سيارة وأبل وغنم تأخذ بلب علقه .. إنه الرحيل وفقط .. الدار الثانية .. ولهذا كان رده
صلى الله عليه وسلم عندما سأله الفاروق عمر :- ( لو اتخذت فراشا أوْفَر من هذا فقال
صلى الله عليه وسلم ) قائلاً :- ( مالي وللدنيا.. ما مَثلي والدنيا إلا كراكب سار في يوم صائفٍ فاستظل تحت شجرة ثم راح وتركها ) غرقٌ فى الفكرة .. رباه ألهذا الحد غرق هؤلاء فى هذه الفكرة فأخذت بلباب فكرهم فشغلتهم عما سواها ؟! ..
نعم كان .. وإليك صور من أناس أخذ التفكير فى الرحيل كل مأخذ منهم :-
هاك سيدنا عطاء السلمي عندما دخلوا عليه يعودونه فى مرضه سائلين :- كيف ترى حالك
؟ .. فيجيب إجابة رجل لا هم ولا فكر له إلا الرحيل :- ( الموت في عنقي ، والقبر بين
يدي ، والقيامة موقفي ، وجسر جهنم طريقي ، و لا أدري ما يفعل بي ) .. ثم يبكى بكاء
شديداً .. ويقول :- اللهم ارحمني وارحم وحشتي في قبري ومصرعي، وارحم مقامي بين يديك يا أرحم الراحمين )
وعش مع كلمات رجل نموذج فى الغرق فى فكرة الرحيل .. وهو ابن السِمَاك :- ( إن
استطعت أن تكون كرجل ذاق الموت وعاش ما بعده ، ثم سأل الرجعة فَأُسْعِفَ في طلبه
وأعطيَ حاجته ، فهو متأهب مبادر فافعل ، فإنّ المغبون من لم يقَدّم من ماله شيئا، ومن نفسه لنفسه ) ..
ويقول الخليفة الخامس للخلفاء الراشدين :- ( لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة لفسد ) .. ثم
انظر إلى كلمات الرجل الصالح الربيع بن خثيم وهو يقول:- ( لو غفل قلبي عن ذكر الموت ساعة واحدة لفسد قلبي ) ..
لماذ نكره الرحيل ؟
ويبين هذ الرجل الصالح سر كرهنا للرحيل .. وإشمزازنا منه .. وتشاؤمنا من ذكره ..
والهرب منه والضجر والسآم والكره لهذا الرحيل ..:- ( لأنكم عمرتم الدنيا وخربتم
الآخرة ، فأنتم تكرهون الإنتقال من العمران إلى الخراب ) .. صحيح كلامك أيها الرجل ..
أصبت الحقيقة ورب السماء .. أنّا لنا أن نحب الآخرة .. أن نحب ما خربناه .. ونكره ما
عمرناه .. لو اجتهدنا أن ندفع ثمن بيتاً فى الجنة كما نجاهد فى بيوتنا الدنيا لأحبننا الرحيل
إليه لنعيش فيه .. لو حاولنا أن ندفع ثمن حديقة من حدائق الجنة كما نحرص ونحاول ونكثر المحاولات فى حدائق الدنيا وأراضى الدنيا لسارعنا الخطأ إليها لكن ماذا لو تذكرنا الرحيل ؟! .. إن ذكر الموت والرحيل عن الدنيا واحدٌ من أنفع أدوية القلوب وأسباب حياتها وصلاحها ؛
ولهذا المعنى الرائع الذى يسعى إليه كل محب لآخرته كان النبي صلى الله عليه وسلم
يُوصي بالإكثار من ذكر الموت :- ( أكثروا ذكر هاذم اللذات ) ..أكثروا ففى الإكثار حياة القلوب وعدم تعلقها بالدنيا والإستعداد كل الإستعداد للآخرة ..
وقد سأل رجل عالماً عن دواء لقسوة القلوب .. فأمره بعيادة المرضى ، وتشييع الجنائز .. ففى هذا قرب من فكرة الرحيل ..
ولو ذهبنا لكتاب الإحياء الذى فيه الحياة لوجدنا كلمة دقيقة رائعة الدقة يخاطب الإمام
الغزالي نفسه بها :- ( يا نفس ، لو أن طبيباً منعك من أكلة تحبينها لا شك أنك تمتنعين ، أيكون الطبيب أصدق عندك من الله ؟ ) رائع أيها الإمام برائعتك تلك ..
ولكنه ليس يأساً ..
ولكن لحظة يا سادة قبل أن نفترق .. ليس معنا أن نغرق فى الرحيل ونجهد أنفسنا فى
صناعته بكل ما نملك من أعمال بر وخير وإحسان أن نترك دنيانا يسودها اليأس
والتشاؤم .. أن نترك الدنيا بما فيها للظلام يظلمون والطغاة يطغون .. كلا وألف كلا إن
فى إستعدادنا للرحيل عمارة الآخرة بعمارة الدنيا .. ألا تذكر معى سلفنا الصالح مع
تواصيه بالموت والإستعداد له فتحوا مشارق الأرض ومغاربها، وسادوا الدنيا بطاعة الله،
وجاءهم الموت فكانوا أفرح بقدومه من الأم بقدوم ولدها الغائب .. فوجدنا منهم من يقول
وهو على فراش الموت :- ( غدًا نلقى الأحبة محمدًا وحزبه )
والله أعلم .. |
|
|
|