من علماء اللغة
ابن سيده
نسبه وموطنه :
هو علي بن إسماعيل ، أبو الحسن ، اللغوي الأندلسيّ المُرْسيّ (نسبة إلى مرسية ، وهي مدينة في شرق الأندلس) ، المعروف بابن سيده ، إمام اللغة وآدابها ، وأحد من يضرب بذكائه المثل .
وقد اختلف المؤرخون في اسم أبيه، فقال ابن بشكوال في (الصلة) أنه إسماعيل ، وقال الفتح بن خاقان في (مطمح الأنفس) أنه أحمد ، ومثل ذلك قال الحُمَيْدي ، كما ذكر ياقوت في (معجم الأدباء) ، وقد اعتمدنا (إسماعيل) على الأشهر ، مع أنه قد غلبت كنيته (ابن سِيدَه) على اسم أبيه ، وإن كانت المصادر وكتب التراجم لم تذكر سبب تكنيته تلك .
ولد ابن سِيدَه في مرسية ، ونسب إليها كما أشرنا ، وهي من أعمال تدمير، في شرق الأندلس ، وكان ذلك في سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة من الهجرة .
نشأته وصفاته :
نشأ ابن سِيدَه في بيت علم ولغة، حيث كان أبوه من النحاة من أهل المعرفة والذكاء ، وقد تعهد ابنه هذا بالرعاية والتعليم ، وصقله صغيرًا وشبّعه بحب اللغة وعلومها، وإن العجب ليس في أن أبيه هذا كان ضريرًا ، بل العجب كل العجب من أن الابن أيضًا (ابن سيده) كان ضريرًا مثل أبيه ، فهو أعمى ابن أعمى ، ولكنه ورغم عمى بصره فقد كان نيّر القلب كأبيه ، قد رزقه الله عوضًا عن فقدان بصره حافظة قوية وذهنًا متوقدًا ، وذكاءً حادًّا .
وقد شهد بذلك أبو عمر الطلمنكي يوم أن قال : دخلت مرسية فسألني أهلها أن يسمعوا مني " الغريب المصنف " (هو من كتب اللغة التي تُعنى بالغريب ، ومصنفه هو أبو عبيد القاسم بن سلام) ، قال أبو عمر: فقلت : احضروا من يقرؤه ، فجاءوا برجل أعمى يقال له ابن سيده فقرأه عليّ كله من حفظه وأنا ممسك بالأصل ، فتعجبت من حفظه .
شيوخه :
بعد وفاة والده النحوي الضرير، الذي اشتغل عليه في بداية حياته ، وروى عنه ، كان أن اشتغل ابن سيده بنظم الشعر مدة ، وتلقى اللغة على يد شيخه صاعد بن الحسن اللغوي البغدادي ، وكان من الوافدين على الأندلس ، وقرأ أيضًا على أبي عمر الطلمنكي -كما أشرنا إلى ذلك- وكان لغويًّا مفسرًا محدثًا ، ثم انقطع للأمير أبي الجيش مجاهد العامري صاحب دانية (شرق الأندلس) ، وكان محبًّا للعلم مكرمًا لأهله ، وعنده أدرك ابن سيده أمانيه وألف أعظم كتبه .
ذكر ذلك المقّري التلمساني في (نفح الطيب) فقال : وكان - ابن سِيدَه - منقطعًا إلى الموفق صاحب دانية ، و بها أدرك أمانيه ، ووجد تجرده للعلم وفراغه ، وتفرد بتلك الإراغة ، ولا سيما كتابه المسمى بالمحكم ، فإنه أبدع كتاب وأحكم " .
ثم قال : ولما مات الموفق رائش جناحه ، ومثبت غرره و أوضاحه ، خاف من ابنه إقبال الدولة ، و أطاف به مكروهًا بعض من كان حوله ؛ إذ أهل الطلب كحيات مساورة ، ففر إلى بعض الأعمال المجاورة ، وكتب إليه منها مستعطفًا :
ألا هل إلى تقبيل راحتك اليمنى *** سبيل فإنّ الأمن في ذلك واليمنا
فتنضى همومٌ طلّحته خطوبه *** و لا غاربًا يبقين منه ولا متنا
غريبٌ نأى أهلوه عنه وشفّه *** هواهم فأمسى لا يقرّ ولا يهنا
فيا ملك الأملاك إني محل*** عن الورد لا عنه أذاد ولا أدنى
تحققت مكروهًا فأقبلت شاكي *** لعمري أمأذونٌ لعبدك أن يعنى
وإن تتأكد في دمي لك نيةٌ *** فإني سيف لا أحبّ له جفنا
إذا ما غدا من حرّ سيفك بارد *** فقدمًا غدا من برد نعماكم سخنا
وهل هي إلاّ ساعةٌ ثمّ بعده *** ستقرع ما عمّرت من ندمٍ سنّا .
و مالي من دهري حياةٌ ألذّه *** فتجعلها نعمى عليّ وتمتنّا
إذا ميتةٌ أرضتك عنّا فهاته *** حبيبٌ إلينا ما رضيت به عنّا
وهي طويلة ، وقد جاء أنه وقع عنه الرضا مع وصولها إليه فرجع إليها .
مؤلفاته :
بذاكرته اللاقطة التي منّ الله بها عليه استطاع ابن سيده أن يُلمّ بعلوم اللغة العربية وينبغ في آدابها ومفرداتها ، فكان -كما قال الحميدي- إمامًا في العربية حافظ للغة ، وله في الشعر حظ وتصرف ، وقد وصفه القاضي الجياني وكان معاصرًا له (ت 486هـ) فقال : " لم يكن في زمنه أعلم منه بالنحو واللغة والأشعار وأيام العرب وما يتعلق بعلومها، وكان حافظًا " .
هذا ويبدو أن ابن سيده لم يقتصر في تحصيله للعلوم وتأليفه فيها على علوم اللغة العربية وحدها ، شأنه في ذلك شأن أغلب علماء المسلمين المتقدمين ؛ فكان أيضًا متوفرًا على علوم الحكمة والمنطق ، تلك التي كانت ذائعة الصيت في ذلك الوقت ، وقد قال عنه القاضي الجياني في ذلك : " كان مع إتقانه لعلم الأدب والعربية متوفرًا على علوم الحكمة ، وألف فيها تأليفات كثيرة " ، وقد وصفه صاعد اللغوي بأنه من حُذّاق المنطق ، وقال فيه ابن قاضي شهبة في طبقاته : " ومن وقف على خطبة كتاب المُحْكَم علم أنه من أرباب العلوم العقلية ، وكتب خطبة كتاب في اللغة إنما تصلح أن تكون خطبة لكتاب الشفاء لابن سينا " .
وأما ما أُثر عنه من مصنفات فكان منها : كتاب " المحكم والمحيط الأعظم" ، وكتاب " المخصص " وسنعرج عليهما بعد قليل ؛ إذ هما اللذان طيّرا شهرة ابن سيده وأنزلاه بين صانعي المعاجم العربية منزلة سامقة رفيعة، باعتباره واحدا من صناعها العظام .
وله أيضًا كتاب " شرح إصلاح المنطق " ، وكتاب " الأنيق في شرح الحماسة " ، وكتاب " شرح ما أشكل من شعر المتنبي " ، وكتاب " العلام في اللغة على الأجناس " وقد قال عنه ياقوت الحموي : " في غاية الإيعاب ، نحو مائة سفر، بدأ بالفلك وختم بالذرة " ، وكتاب " العالم والمتعلم " على المسألة والجواب ، وكتاب " الوافي في علم أحكام القوافي" ، وكتاب "شاذ اللغة " ، ويقع في خمس مجلدات ، وكتاب " العويص في شرح إصلاح المنطق " ، وكتاب " شرح كتاب الأخفش " ، وغير ذلك .
وإنه ورغم كثرة مؤلفاته تلك وأهمية مواضيعها ، فإنه لم يصلنا منها إلا ثلاثة منها فقط هي : المشكل من شعر المتنبي ، والمحكم والمحيط الأعظم ، والمخصص ، أما عن باقي تواليفه فهو إما أنه فقد مع ما فقد من مخطوطات التراث ، أو أنه ما زال في غياهب دور الكتب والمحفوظات ، ولم تمتد إليه بعد يد البحث وأيدي الباحثين .
المحكم و المحيط الأعظم .. مصنع اللغة :
في دولة علي بن مجاهد ألف ابن سيده كتاب " المحكم والمحيط الأعظم " على نحو ترتيب الخليل في معجمه " العين " ، وقد زاد فيه التعرض لاشتقاقات الكلم و تصاريفها فجاء من أحسن الدواوين ، بحسب تعبير القونجي .
" وقد التزم ابن سيده في ترتيب مواد " المحكم " الترتيب الذي اخترعه الخليل بن أحمد في معجمه العين ، وكانت طريقته تقوم على ترتيب الحروف تبعا لمخارجها مبتعدا بالأعمق في الحلق ، ومنتهيا بما يخرج من الشفتين ، فاستقام له الترتيب التالي : ع ح هـ خ غ ق ك ج ش ض ص س ز ط د ت ذ ث ر ل ن ف ب م و ي ا ء ، وسمى كل حرف منها كتابا ، مع تقسيم كل كتاب إلى أبواب حسب أبنية الألفاظ من حيث كونها ثنائية أو ثلاثية أو رباعية أو خماسية ، والأخذ بمبدأ التقاليب ، فمثلاً حرف العين الذي استهل به معجمه يمكن أن يتغير موضعه في البناء الثنائي مرتين ، فيأتي أول البناء الثنائي أو ثانيه ، وفي البناء الثلاثي يمكن أن يكون العين في أوله أو ثانيه أو ثالثه ، وفي البناء الرباعي يكون أربعا ، وفي الخماسي يكون خمسا ، فإذا كان الحرف الثاني مع العين في البناء الثنائي باء ، فإنه لا يمكن أن يأتي منهما إلا صورتان هما عب وبع ، فإذا كانت العين في البناء الثلاثي ومعها حرفان كالباء والدال ، أمكن أن يأتي منها ست صور هي : عبد بعد بدع عدب ، دعب ، دبع ، وترتفع هذه الصور في البناء الرباعي إلى أربع وعشرين صورة ، وفي الخماسي إلى عشرين ومائة صورة .
وقد أراد ابن سِيده أن يجمع في كتابه ما تشتت من المواد اللغوية في الكتب والرسائل ، وتصحيح ما ورد فيها من أخطاء ، وربط اللغة بالقرآن والحديث ، مع العناية بالتنظيم والاختصار في ترتيب المواد ، كتقديم المجرد على المزيد والمفرد على الجمع وتحاشي التكرار ، وبذلك يكون ابن سيده قد خطا بمناهج تأليف المعاجم خطوة مفيدة إلى الأمام ، غير أن طريقة هذه المعاجم في ترتيب موادها كانت تلقى صعوبة في الكشف والاستخدام ، الأمر الذي أدى إلى ظهور مدارس أخرى في المعاجم لتيسير البحث في الكشف عن المواد اللغوية ، حتى استقرت إلى ما هو متبع الآن في المعاجم الحديثة مثل المعجم الوسيط " .
وفي مادة " المحكم " وما جاء فيه فقد طعن فيه السهيلي في " الروض الأنف " عند الكلام على نقض الصحيفة فقال : وَمَا زَالَ ابْنُ سِيدَهْ يَعْثِرُ فِي هَذَا الْكِتَابِ - يعني المحكم - وَغَيْرِهِ عَثَرَاتٌ يَدْمِي مِنْهَا الْأَظَلّ ، وَيَدْحَضُ دَحَضَاتٍ تُخْرِجُهُ إلى سَبِيلِ مَنْ ضَلّ ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ فِي هَذَا الْبَابِ وَذَكَرَ بُحَيْرَةَ طَبَرِيّةَ فَقَالَ : هِيَ مِنْ أَعْلَامِ خُرُوجِ الدّجّالِ ، وَأَنّ مَاءَهَا يَيْبَسُ عِنْدَ خُرُوجِهِ ، وَالْحَدِيثُ إنّمَا جَاءَ فِي غَيْرِ زُغَرٍ، وَإِنّمَا ذَكَرْت بُحَيْرَةَ طَبَرِيّةَ فِي حَدِيثِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَأَنّهُمْ يَشْرَبُونَ مَاءَهَا ، وَقَالَ فِي الْجِمَارِ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ : إنّمَا هِيَ الّتِي تُرْمَى بِعَرَفَةَ ؟ ! وَهَذِهِ هَفْوَةٌ لَا تُقَالُ وَعَثْرَةُ لَا لَعًا لَهَا ، وَكَمْ لَهُ مِنْ هَذَا إذَا تَكَلّمَ فِي النّسَبِ وَغَيْرِه " .
وقد رد عليه ابن حجر في " ميزان الاعتدال " فقال بعد ما أورد جزءا من النص السابق له : ".. و الغالط في هذا يعذر لكونه لم يكن فقيها ولم يحج ، ولا يلزم من ذلك أن يكون غلط في اللغة التي هي فنه الذي يحقق به من هذا القبيل " .
و في وصف خبير فقد قال ابن منظور عن " المحكم " : " ولم أجد في كتب اللغة أجمل من تهذيب اللغة للأزهري ، ولا أكمل من المحكم لابن سيده ... وما عداهما ثنيات الطريق " .
وقد لخص " المحكم " محمد بن أبي الحسن ، صاحب المستنصر من ملوك الدولة الحفصية بتونس ، وقلب ترتيبه إلى ترتيب كتاب الصحاح في اعتبار أواخر الكلم وبناء التراجم عليها ، فكانا توءمي رحم وسليلي أبوة ، بحسب تعبير القونجي .
المخصص .. أثمن كنوز العربية :
يعتبر كتاب " المخصص " لابن سيده أضخم المعاجم العربية التي تعنى بجمع ألفاظ اللغة وتكوينها حسب معانيها لا تبعًا لحروفها الهجائية ، فلم يكن الغرض من تأليفها جمع اللغة واستيعاب مفرداتها شأن المعاجم الأخرى ، وإنما كان الهدف هو تصنيف الألفاظ داخل مجموعات وفق معانيها المتشابهة ، بحيث تنضوي تحت موضوع واحد .
وقد قسم ابن سيده كتابه إلى أبواب كبيرة سماها كتبًا تتناول موضوعًا محددًا ، ورتب هذه الكتب ترتيبًا منطقيًّا ، فبدأ بالإنسان ثم الحيوان ثم الطبيعة فالنبات ، وأعطى كل كتاب عنوانًا خاصًّا به مثل : خلق الإنسان والنساء واللباس والطعام والأمراض والسلاح والخيل والإبل والغنم والوحوش والحشرات والطير والسماء والفلك .
ثم قسم كل كتاب بدوره إلى أبواب صغيرة حسبما يقتضيه المقام إمعانًا في الدقة ومبالغة في التقصي والتتبع، فيذكر في باب الحمل والولادة أسماء ما يخرج مع الولد أولاً ، ثم يذكر الرضاع والفطام والغذاء وسائر ضروب التربية ، ويتحدث عن غذاء الولد وأسماء أول أولاد الرجل وآخرهم، ثم أسماء ولد الرجل في الشباب والكبر ، وهكذا .
ويلتزم ابن سيده في شرح الألفاظ ببيان الفروق بين الألفاظ والمترادفات وتفسيرها بوضوح ، مع الإكثار من الشواهد ، وذكر العلماء الذين استقى عنهم مادته .
و قد طُبع المخصص في سنة ست عشرة وثلاثمائة وألف من الهجرة في سبعة عشر جزءًا ، ونشر معهد المخطوطات العربية معجم المحكم بعناية عدد من كبار المحققين " .
وفاته :
بعد رحلة علمية حافلة تُوفي ابن سِيدَه في " دانية " بالأندلس عشية يوم الأحد ، لأربع بقين من شهر ربيع الآخر، سنة ثمان وخمسين وأربعمائة من الهجرة ، وعمره ستون سنة أو نحوها .
وفي قصة وفاته فقد ذكر الصفدي أن ابن سيده كان يوم الجمعة قبل يوم الأحد المذكور صحيحًا سويًّا إلى وقت صلاة المغرب ، فدخل المتوضأ فأخرج منه وقد سقط لسانه وانقطع كلامه ، فبقي على تلك الحال إلى العصر من يوم الأحد ، ثم قضى نحبه رحمه الله تعالى .
المراجع :
- الصفدي : نكث الهميان في نكت العميان .
- المقري : نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب .
- اليافعي : مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان .
- ابن كثير : البداية والنهاية .
- الذهبي : سير أعلام النبلاء .
- ابن خلكان : وفيات الأعيان .
- ياقوت الحموي : معجم الأدباء .
- القنوجي : أبجد العلوم .
- ابن حجر : لسان الميزان .
- ابن بشكوال : الصلة .
- الباباني : هدية العارفين .
- السهيلي : الروض الأنف .
- الزركلي : الأعلام .