(( براءة قد تموت ))
وأنا جالسة بالمقهى القريب من مكان عملي أتناول إفطاري المعتاد، فكل يوم اثنين لا أقوى على النهوض فيه باكرا لتهييء فطوري بالمنزل آتي إلى هنا، رأيت طفلا يلعب قرب سيدة تحمل آخر أصغر منه جالسة قرب الرصيف تنتظر عطف المارة لتنال منهم بضع قطع نقدية.
ما أثارني ليست السيدة بحد ذاتها فعيناي تقابل الكثير منها مع الاسف. ما أثار انتباهي ضحكات ذاك الصبي وهو يجري ويقفز هنا وهناك مبتعدا وعائدا لأمه.
تلك البراءة تلك الفطرة الجميلة التي تحدت إيقاظه باكرا وإحضاره إلى الهواء الطلق رغم نسمات البرد الخفيفة، فنحن على مشارف استقبال فصل الخريف، حيرتني.
وأنا آخذ من كوب قهوتي الساخنة رشفات على أنغام قهقهاته تساءلت: هل يا ترى يفهم وضع أمه ذاك؟ هل حين سيستوعب الواقع سيحافظ على تلك الضحكات؟
وسبحت في الواقع أرى 4 قصص خلف تواجد أمه هناك .
تخيلت أولا واقع وفاة الأب فصارت الأم هي العائلة للأسرة الصغيرة.
وطبعا كثيرون سيستنكرون الأمر ويرددون "كان حري بها أن تعمل ولا تأكلها بالساهل".
سؤال لهؤلاء: أي مشغلة هذه التي ستستقبلها للعمل رفقة أبنائها! أول شيء سيعترضها وهي تطلب عملا بالبيوت ذكر رباته "ستلتهين مع صغارك ولن تنجزي العمل باتقان".
وطبعا ردا على قولهم "لتتركهما في مكان اخر" إليهم سؤالا آخر: مانوع هذا المكان؟ المرأة العاملة بأجار قار تتركهم في الروضة أي أجار هذا الذي ستناله هذه السيدة يكفي مأواها ومأكلها ناهيك عن الروضة هذه؟!!
هنا أرى إجابتهم المنهزمة أن الأمر بيد الدولة أن تفتح مكانا لمثل هؤلاء النساء يحتضن أولادهن بكل ثقة وأمان فيفسح لهن المجال لكسب قوت يومهن بكدهن بدل الجلوس على قارعة الرصيف.
قضمت قضمة من الخبز المحمص وأنا أتأمل وجه الصبي أبيض البشرة جميل المحيى تخيلت صدمته حين سيستوعب يتمه وتكبر أهل أبيه وأمه عن إعانتهم، ألهذه الدرجة قلوب الناس قاسية؟ إن كنا قساة على بعضنا ونحن أهل أننتظر الرحمة من الدولة؟!
بعدها رميت ببصري نحو الأم العشرينية العمر ترتدي جلبابا فضفاضا أخضر وفي حضنها رضيع غطته بوشاح كبير أبيض لتقيه البرد وهي تحركه حركات متتالية ليكمل نومه رغم ضجيج السيارات والخطوات.
تخيلتها تروي لبكرها قصة حب هندي جمعها ووالده وبرفض الأهل هربا وتزوجا خفية عنهم.
فرأيت الصبي يصرخ في وجهها: ولو! عليك ان تعودي اليهم بعد وفاته؟
فتعود الأم وتروي قصة واقعية أنها عادت ورفضوها.
أي قلب طاهر هذا سيظل وهو يرى القسوة تمشي على الأرض!
ثم تخيلت ثانيا واقع طلاق الزوجين وتملص الأب من النفقة.
أول تساءل سيطرحه الصغير: أين أبي؟. وإن حدث وأخبرته أمه عن مكانه وبحث عنه سيجده رفقة زوجة وأبناء جدد مهتم بهم كعينيه. أسيتقبل هذا الذل الذي أصابهم بسببه؟ أسيتقبل طرد أبيه له إن طالب بجزء من تلك الرعاية؟ أستظل في قلبه رحمة بعد هذا الجبن والاستبداد من والده؟
وطبعا لم أستثن واقع أب سكير عاطل وأم تعول البيت.
لم أرد حتى تخيل الوضع لأنه حين سيستوعب الواقع هنا إما جريمة قتل في حق والده دفاعا عن أمه وهي تحت رحمة سوطه بعد أن دخلت يوما دون مال للبيت. وإما سرقته لبعض النبيذ يتذوقه فيعرف أي مغر هذا الذي يحبه والده اكثر منهم فينسى بذلك واقعه ويغدو نسخة اخرى من أبيه..
وأخيرا واقع امتهان الطرفين لهذه المهنة.مهنة الهوان على الناس.
طبعا الأحرى أن يعيلا أبناءهما بشكل جيد ويسعيا وراء تدريسهما فتعتبر هنا مهنة شريفة. لا أن يجعلا من صغيريهما جزء من هذا الهوان.
وقائع مزرية أيا كان الواقع. لكني أحيي السيدة لم تلقي أبناءها في دور أيتام ولم تبع ما تملكه للأغراب. سيدة امتهنت ما يحفظ كرامتها حين لم تجد غير ذلك لظروفها.
انتبهت للصحن لأراني أفرغته وأنا منغمسة في مشاهد الفلم الذي نسجته بخيالي.
تناولت آخر رشفة من قهوتي، ناديت النادل وأديت ثمن إفطاري، ثم قمت من مقعدي متجهة نحو الدكان الذي يوجد قرب أبطال فلمي.
اقتنيت بعض الحاجيات لها وصغارها، مددت لها الكيس البلاستيكي حال خروجي بحياء ومضيت لعملي رفقة دعواتها العديدة وأنا أأمن في سري وأتمنى لو أن المرء يعلم خبايا الأمور وراء من يتسولون فيعلم أين ينال الأجر وهو مطمئن القلب.