﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾
يتقلَّب الإنسانُ في رحلة حياته الدنيوية بين بلاءين واختبارين؛ مصداقَ قول الحقِّ سبحانه:
﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ [الأنبياء: 35]. ولعلَّ الله قدَّم ذكر الشرِّ في الآية لظهور الابتلاء به
ووضوح معناهْ، وأخَّر ذكر الخير لخَفاء الابتلاء به وغُموض فحواهْ؛ إذ أوَّلُ ما يتبادرُ إلى الأذهان
حين يُذكر الابتلاء ما ظاهرُه شرٌّ وغُرمْ، على حين يغفُل المرء غالبًا عن البلاء المستتر
في طيَّات ما ظاهرُه خيرٌ وغُنمْ، ومن هنا أُتِيَ كثيرون!
أمَّا مظاهرُ الابتلاء بالشرِّ فكثيرةٌ معروفة، ومن أوَّل ما يستحضرُه المرء منها قوله تعالى:
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155].
فهذه المصائب الظاهرة تُصيب العبدَ امتحانًا لإرادته وصدق يقينه، فمَن صبر على تجرُّع مُرِّها
راضيًا محتسبًا، كانت سببَ خيرٍ كبير له في الدنيا والآخرة. ومن هنا قال بعضُ السلف:
(لو عَلِمنا كم نغرِفُ من الأجر بعد المِحَن لما تمنَّينا سرعةَ الفرَج).
وأمَّا الابتلاء بالخير فهو عامٌّ في كل خير؛ من مالٍ وجاه وسلطان، ومن قوَّةٍ وصحَّة وهمَّة
ومن علمٍ وعقل وفهم.. فإنَّ هذه النعمَ إن لم يُقابلها العبدُ بالشكر، والاعتراف بفضل الله
المنعِم، وتسخيرها في طاعته ورضوانه، انقلبَت وَبالًا عليه.
فكم من عالمٍ اغترَّ بعلمه فباهى به العلماءْ، ومارى به السفهاءْ!
وكم من داعيةٍ أعجبَته نفسُه؛ لإقبال الناس عليهْ، وازدحامهم بين يديهْ!
وكم من ثريٍّ أطغاه ماله؛ ففي سخَط الله بدَّدَهْ، وفي المنكرات والشَّهوات بذَّرَهْ!
وكم من صاحب جاهٍ ضنَّ بجاهه كِبْرًا وغرورًا!
وكم من ذي سلطان أعمَت عينيه قوَّتُه فبطش وظلم!
والسعيد مَن وفَّقه الله لالتزام الصبر في العُسرْ، والشكر له تعالى في اليُسرْ؛ ليكونَ فيمَن أخبر النبيُّ
صلى الله عليه وسلم عنهم بقوله: (عجبًا لأمر المؤمن إنَّ أمره كلَّه خير، وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن
إن أصابته سرَّاءُ شكرَ فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاءُ صبرَ فكان خيرًا له) [صحيح مسلم].
اللهم جمِّلنا بالإيمانْ، وكمِّلنا بالإحسانْ، وأعذنا من شرور أنفسنا، يا كريم يا رحمانْ.
كتبها
أيمـن بن أحمد ذو الغـنى
نُشرت في كتاب (ثلاثون مجلسًا في التدبُّر) الصادر عن مركز تدبُّر للدراسات والاستشارات
بالرياض، الطبعة الأولى، 1437هـ/ 2016م، المجلس (17) ص39- 40.