إن الطفل يتعلَّق تعلّقاً وثيقاً بالأشخاص
الذين يحقِّقون له حاجاته الغذائية الأساسيَّة ، ولكن يستحوذ الخوف على الطفل بعد شهر
واحد من ظهور هذه العلاقة ، فيبدأ يخشى
من الأشخاص الذي يقتربون منه مع أنه كان
يقبلهم سابقاً ، ونقصد بذلك خوف الطفل من الغرباء ،
ففي أثناء الأسابيع الأولى يتجاوب الطفل
بالطريقة نفسها مع جميع الأشخاص الذين
يتعاملون معه ، ولكنه يشرع منذ الشهر الثالث بعملية
اختيار الناس الذين يحيطون به .
وتتمثَّل النتيجة الأولى من خوف الطفل
هذا في تجاوبه البطيء مع ابتسامة الغريب ، ومع مرور الزمن يبطئ الطفل في التجاوب
حتى يصل إلى حدِّ يكفُّ فيه عن هذا التجاوب ، ويستبد به خوف شديد من الغرباء بين الشهرين
الثامن والثاني عشر ، والحق أنَّ هذا النوع من
عمليَّة الاختيار الاجتماعي يدفع الطفل إلى مزيد
من التعلُّق بأسرته وبالناس الذين يحيطون به كل يوم . وواقع الأمر أن رفض الطفل أو قبوله للناس ، وقدرته على التمييز بين الأشخاص ، كل ذلك
يعتمد على استجابته للمعلومات المتوافرة لديه عنهم ، ومهما يكن من أمر فيجب ألاّ نتوقع من الأطفال
جميعاً أن يكون لديهم ردّ فعل واحد ، فبعضهم
يبتسم في وجه الغرباء من دون إبطاء ، ومن
جهة ثانية فإنَّ الطفل وإن كان قادراً على تمييز
أمِّه منذ اللحظات الأولى من حياته ، إلاَّ أنه لا يشعر بفقدانها إذا هي غابت عنه . فهو إذن قادر على تمييزها حاضرة دون
تذكرها غائبة ، وعلى هذا فهو لا يستطيع
اتِّخاذها معياراً لمقارنتها مع غيرها ، والخوف
من الغرباء ينشأ كما رأينا لدى الطفل عادة
في الشهر التاسع تقريباً ، وربَّما تأخر بعد
الشهر التاسع ، وهذا يعتمد على عوامل
مختلفة تتصدَّرها علاقته بأمِّه . كما أنَّ الناس الذين يتصلون بالطفل أو
يرعونه قد يسرعون أو يؤخرون تماسه
ودخوله إلى العالم الخارجي ، ورفض الطفل
لهذا الاتصال بالناس لا يدلُّ على موقف ثابت
من جانبه ، إذ يتغيَّر هذا الموقف في البيئة أو الوسط
الذي يعيش فيه ، وذلك بحسب الأشخاص
والأشياء التي يتصل بها . وتعدُّ هذه قاعدة أساسية تؤثِّر في مراحل
التعليم كافة التي يمرُّ بها الطفل ، فقدرة
الطفل على النموِّ ، وتصوُّر الأشخاص الذين اعتاد التعلُّق بهم
حتى في أثناء غيابهم ، والأمان الذي يستمده من هذا التعلق ،
وكذلك محاولاته الأولى للاستقصاء
والاستقلال الذاتي ، كل ذلك يقرِّبه
بصورة متزايدة من مواقف جديدة ،
ومن أناس لا يعرفهم . ونتيجة لذلك يتناقص خوف الطفل من
الغرباء بصورة طبيعية وجادَّة ، وتستمر
أمُّه بأداء دور جوهري خلال هذه المرحلة
من الخوف والعداء نحو الغرباء . والحقُّ أن الأم هي التي تستطيع إرشاد طفلها ودفعه إلى خبرة اجتماعية أكثر نضجاً ، وهي التي تعرِّفه أيضاً على خبرات عاطفية
جديدة عليه تساعده على الاختيار ، وتمنحه
الثقة اللازمة لتنفيذ المحاولات الأولى في
التكيُّف الاجتماعي . من جهة ثانية فإن أحد العوامل المهمة التي
تسهم في دخول الطفل إلى المجتمع هي ظاهرة الاندماج الاجتماعي ، تلك الآلية العفويَّة
واللاشعوريَّة التي تدفع المولود الجديد إلى
تبنِّي شكل معيَّن من السلوك ، فإذا كان الطفل ذكراً وجب على الأب
أن يؤدِّي دوراً بارزاً في عملية اندماج
ابنه في المجتمع ، أمَّا إذا كان المولود الجديد أنثى فتلك
مسؤولية الأم . والحق أن من واجب الأبوين تبادل هذين
الدورين النموذجيَّين قدر المستطاع ، حتى
يتمكنا من دفع ابنهما إلى الدخول في
المجتمع بصورة سليمة . |
|
|