النورسية هوية الأمة التركية الإسلامية
ولد بديع الزمان سعيد النورسي سنة 1876 وتوفي سنة 1960 فيكون قد شهد ما يزيد قليلا عن الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، مع ما يزيد قليلا عن النصف الأول من القرن العشرين. وهذه السنين التي جاوزت الثمانين عاما تعد من الأعوام الخطيرة في تاريخ الشرق الإسلامي.
لقد فتح النورسي عينيه على أحداث تركيا الجسام، وتلمس أمة كبيرة لها هويتها الإسلامية وأصالتها الدينية فخورة بوجودها الإيماني، تزهو به وتنتخر، لأنها وصلت بالإسلام إلى قمة الحياة والمجد، وسادت على الأمم ؛ بفضل عقيدتها، وأصالتها، ثم أصابها المرض الذي يصيب الحضارات الكبرى، فتاهت وصارت تبحث عن نفسها بين التنظيمات الأوربية المستوردة، وبين الأصالة، وفكرة الجامعة الإسلامية، وأصبح دورها مشتتا بين الطورانية والعلمانية وفصل بين الإيمان والزمان. في هذا الوضع المتلاطم الأمواج، كانت تركيا تبحث عن مستقبل جديد لا يعرف طريق الوصول إليه، باهت المعالم غامض الأهداف، مجهول النتائج، فاقد القدوة، فمنذ أن ظهرت المسألة الشرقية، التي كانت عنوانا لخطط أوربا للسيطرة على العالمين العربي والإسلامي ونهب ثرواتها بمختلف الطرق والأساليب، وممتلكات الخلافة العثمانية توزع كالفريسة التي تنتهك حرمانها بين مفترسيها، وافتقدت القدوة داخل المجتمع التركي الذي غلب عليه اليأس والفنوط وهو يرى أمجاده تضيع في ثنايا التاريخ الذي لم يعد يقرأه احد أو يتدبر عبره ودروسه أحد وكانت الأمة اجتثت من جذورها نهائيا. وتلقت الخلافة ضربة موجعة حينما وجهت فرنسا حملتها على مصر واحتل الانجليز الهند، وتوالت النكبات واختلت الأحداث، وتطور مفهوم المسألة الشرقية، وصار معناه العمل على إضعاف القوة السياسية للإسلام. وهكذا وقعت اتفاقية سايكس بيكو التي قسمت ممتلكات الخلافة الإسلامية العثمانية وكانت الحرب العالمية الأولى قاصمة الظهر ونهاية الخلافة العثمانية التي دافعت عن الإسلام وأهله قرونا عديدة من الزمن. هذا فيما يخص العدو الخارجي، أما العدو الداخلي فكان خطره أعظم، وقد تمثل في دعاوى القومية والوطنية التي حولت حركة الجهاد الإسلامي إلى حركة ضيقة دفاعية تجزيئية ، عكس مقاصد الجهاد في العقيدة الإسلامية، وقاد التعصب بعض رجال تركيا الفتاة و مثقفي البلاد العلمانيين إلى الإصلاح الدستوري، ثم العمل على القضاء على الخلافة العثمانية وعلمنة تركيا. فظهرت الثورة الكمالية وتفشت العلمانية التي تعادي الدين، ونتج عن ذلك ظهور الشقاق بين المسلمين، وتطورت النزعات القومية والحركات الوطنية في كافة أجزاء الخلافة العثمانية. وقد واكب النهضات الصناعية التي أسست مجتمعات داخل المدن بعيدا عن أعين الحشمة البدوية والقروية التي كانت تقيم الأخلاق الإسلامية في حياتها، فكان لابد من قيام حركة إصلاح تحفظ هوية الأمة وتصون أخلاقها ضد العلمانية الزاحفة، ومن ورائها المستعمر الغاشم. وهنا برزت النورسية كمصباح مضئ ما لبث ان عم نوره المبارك كافة ارجاء الخلافة . لقد نشأ النورسي نشأة الحامل للأمانة وتربى ليكون رائدا لأمته ومثالا يحتذى به. "ووقف في مقدمة الصفوف وفي أول الخنادق في اسطانبول لايرضى بمغادرتها إلى أي مكان آخر، يؤدي واجبه المقدس ضد المحتلين بأفضل ما يملكه ". ولم تستطع جميعة الاتحاد والترقي أن تنال من همته أو تفل من عضده بل سار سيره في ترسيخ المبادئ، وإنشاء العلم بين الناس. فقد كان رحمه الله قد توقع حدوث الكارثة بالأمة الإسلامية والخلافة، "فكثيرا ما نبه المعنيين والمسؤولين من سلاطين وحكام بأن القرن الآتى هو قرن العلم، لذا فإن المدارس الدينية القائمة آنذاك والتي كانت مقتصرة على الدراسات الدينية فحسب، لا تخرج أجيالا من الشباب قادرة على التصدي للمغرمين بالحضارة الغربية ما لم تطعم هذه الدراسات بالعلوم الكونية الحديثة. لذا فقد حذر وأنذر وأعذر في خطبه الكثيرة ومقالاته الجديدة وتآليفه ومقابلاته الشخصية وتجواله في المدن والأرياف.. كل ذلك لإيقاظ الأمة والمسؤولين من هذه الحملة التي طال امدها ومن الكارثة المتوقعة، ولكن صيحاته هذه لم تلق سوى آذانا صما وقلوبا غلفا لا تعي.. حتى وقعت الكارثة" . 2- النورسية والإصلاح العقدي : نشأت النورسية نشأة اسلامية خالصة، مدفوعة بإيمان عميق، متوجهة إلى أهداف عقدية صريحة لأن العقيدة هي روح الأمة، والطريق إلى إحيائها فبدأ بديع الزمان النورسي من إصلاح الفكر العقدي، السائد. فإذا كانت مدرسة الجزيرة العربية سنة 1115 قد خلفت أثرا إصلاحيا وهبت ريحها على العالم الإسلامي، فأثارت عواطف الأمة الإسلامية لتهب لإنقاذ نفسها بدينها بعد ان فشلت تجارب القوميات في أوربا وتهاوت الخلافة على مرأى ومسمع من الشعوب المسلمة، بفعل العامل الداخلي الذي ترك الأخذ بالأسباب، والعامل الخارجي المتمثل في تكالب قوى الشر المتعصبة ضد امة الإسلام قد أعقبت قيام هذه الحركة منها حركة الإخوان المسلمين في مصر، وحركة ما شومي في أندونيسيا، والمودودي في باكستان والمهدي السوادني في السودان، والنورسي في تركيا. وإذا كانت مدرسة الشيخ حسن البنا تجسد عقيدة سلفية وحركة صوفية أسهمت في خلق ثورة فكرية تجديدية في التفكير الإسلامي، وحملت لواء الثورة ضد الحركات الإستعمارية في المشرق القريب والبعيد، فإن مدرسة الشيخ سعيد النورسي هي المدرسة الأولى التي حملت لواء التجديد في الفكر الإسلامي في تركيا الطورانية، وبخاصة ضد دعاوى الوضعية القومية المتعصبة التي تهاوت في معاقلها في الغرب قبل الشرق القريب والبعيد، وتنامت مع القادم الجديد الذي عبأ تركيا بغيرما كان ينبغي أن تعبأ به فمالت في أوديتها تيارات تبحث بواسطتها عن ذاتها أو هويتها هل ترتمي في أحضان الدب الأبيض أو تعود إلى ما كانت عليه قبل الإسلام؟ أم تتمسك بدينها فتحفظ لنفسها الوجود الداخلي والإنسجام الخارجي؟ وسؤالنا قبل ذلك هو : ما الذي دفع النورسي لحركته التجديدية في الفكر الإسلامي للحفاظ على تركيا مسلمة؟ يجيب النورسي على هذا الإشكال فيصف الإنسان التركي بأنه ذلك المسافر الذي أرسل إلى الدنيا لأجل الإيمان، وأن سعيه ينبغي ان ينحصر في البحث عن الذات، وذلك بسياحة فكرية في عالم الكائنات للإستفسار عن خالقه في كل شيء، والتعرف على ربه في كل مكان، وترسخ إيمانه بدرجة حق اليقين، بوجوب وجود الهه الذي يبحث عنه. ويصور النورسي هذا الإنسان التركي بالباحث الذي يدعو إلى القيام برحلة سياحة ليتفقد أحواله وذلك من خلال أربع حقائق قدسية تستحوذ على الكائنات وتستوجب التوحيد بدرجة البداهة. أ- الحقيقة الأولى : هي الألوهية المطلقة : وحقيقة هذه العبودية تتلخص في كونها لا تقبل المشاركة معها، لأن الذين يقابلون تلك الألوهية بالشكر والعبادة هم ثمرات ذات مشاعر في قمة شجرة الكائنات، لذا فـإن إمكان وجود آخرين يشدون انتباه الناس، ويجذبونهم إليهم، ويجعلونهم ممتنين لهم وشاكرين، محاولين تنسيتهم معبودهم الحق الذي يمكنه أن ينسى بسرعة لغيابه عن الرؤية ولاحتجابه عن الأنظار-مناقض لماهية الألوهية ومناف لمقاصدها القدسية، ولا يمكن قبوله إطلاقا. فهو يربط الناس بالسماء دون إبعادهم من الأرض التي تتطلب منهم العمارة وتحقيق الأثر، فكل من ينسي الإنسان مهمته في الحياة يكون قد استغفله وأخرجه عن مهمته مهما كانت الدعوة التي يوجهه إليها. الحقيقة الثانية : الربوبية المطلقة : والاعتراف بها يقتضي التعلق بخالق الإنسان ورفض الشريك مطلقا فيها، لأن أهم غايات تلك الربوبية وأقصى مقاصدها هو إظهار جمالها، وإعلان كمالها، وعرض صنائعها النفسية، وإبراز بدائعها القيمة. وقد تجمعت هذه المقاصد جميعها في كل ذي روح، بل حتى في الجزئيات، لذا لايمكن أن تقبل الربوبية الواحدة المطلقة الشرك ولا الشركاء إطلاقا. الحقيقة الثالثة : الكمالات : ومعناها الإتقان للكون والحياة والإنسان فجميع ما في الكون من حكم سامية وجمال خارق وقوانين عادلة، وغايات حكيمة إنما تدل بالبداهة على وجود حقيقة الكمالات... ويعني شهادة ظاهرة على كمال الخالق سبحانه الذي أوجد هذا الكون من العدم، ويدير أمره في كل ناحية إدارة معجزة جذابة جميلة، فضلا عن أنها دلالة واضحة على كمال الإنسان الذي هو المرآة الشاعرة العاكسة لتجليات الخالق جل وعلا. الحقيقة الرابعة : الحاكمية المطلقة : وهي النظرة الفاحصة الواسعة إلى الكون، الذي يرى انه بمثابة مملكة مهيبة في غاية الفعالية والعظمة، وتظهر له كأنها مدينة عظيمة تتم إدارتها إدارة حكيمة، وذات سلطنة وحاكمية في منتهى القوة والهيبة. ويجد أن كل شيء وكل نوع متملك ومسخر لوظيفة معينة. فما دامت الحاكمية الواحدة المطلقة حقيقة كائنة، وهي موجودة ، فلا بد أن الشرك لا حقيقة له ؛ ذلك لأن الحقيقة الجازمة التي تصرح بها الآية الكريمة ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) تفيد بأنه لو تدخلت أيد متعددة في مسألة معينة وكان لها النفوذ اختلطت المسألة نفسها. فلو كان في مملكة ما حاكمان، أو حتى لو كان في ناحية ما مسؤولان، فإن النظام يفسد ويختل وتتحول الإدارة إلى هرج ومرج . هذه الحقائق عند سعيد النورسي يريد من خلالها أن يقول : إن على المسلم في كل مكان وزمان أن يقدر موقفه، وأن يعيد بناء نفسه، وبناء حياته الاجتماعية على ضوء المبادئ النهائية، وأن يستنبط من أهدافه، منه التي لم تتكشف بعد إلا تكشفا جزئيا تلك الحاكمية الروحية التي هي منتهى غاية الإسلام ومقصده-والتي بدونها يفقد وجوده الحر الثابت الذي يتخذ منهجه من الدين الحق الذي هو أحرص من العلم على الوصول إلى ما هو في النهاية حق، وإلى صيانة هذا الحق. ويريد أن يقول إن الإنسان العصري وقد أعياه نشاطه العلمي كف عن توجيه روحه إلى الحياة الروحية الكاملة. وقد استغرق في الواقع الآلي الظاهر للعيان فأصبح مقطوع الصلة بأعماق وجوده -تلك الأعماق التي لم يسبر غورها بعد. والحقيقة في نظر الإسلام الحق روحية ووجودها يتحقق في نشاطها الدنيوي، فالمادة لا تكون لها حقيقة ما حتى تكشف عن أصلها المتأصل فيما هو روحاني. وخلاصة أمر النورسي يتجلى في أن منتهى غاية الذات ليس أن ترى شيئا، بل أن تصير شيئا، والجهد الذي تبذله الذات لكي تكون شيئا هو الذي يكشف لها فرصها الأخيرة لشحذ موضوعيتها وتحصيل هوية أكثر عمقا ورحم الله الإمام الغزالي حينما قال : أنا أريد إذن، أنا موجود.
د. محمد أمين الإسماعيلي
أستاد العقيدة وتاريخ الأديان
بكلية الآداب والعلوم الإنسانية - بالرباط
آخر تعديل السلطانة يوم
17 - 4 - 2021 في 04:22 PM.