ن لكل إنْسَان باطنا وظاهرا، وسَرِيرَةً وَعَلانِيَةً، فالباطن ما كَتم وأَسرَّ، والظاهر ما أبدى وأظهر.. والله سبحانه وتعالى يعلم السر والجهر، وما أخفى العبد وأظهر؛ فليس شيء في القُلُوبُ يَخْفَى عَلَى عَلاَّمِ الغُيُوبِ، يَقُولُ اللهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: {وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى}(طه:7 )، ويقول {والله يعلم ما تسرون وما تعلنون}(النحل: 19).
ويقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: "إن الظاهر لا بد له من باطن يحققه ويصدقه ويوافقه"(مجموع الفتاوى).
والأصل في المؤمن الصادق أن تستوي سريرته وعلانيته، وظاهره وباطنه، كما قال يزيد بن الحارث: "إذا استوت سريرة العبد وعلانيته فذلك النَصَف، وإن كانت سريرته أفضل من علانيته فذلك الفضل، وإن كانت علانيته أفضل من سريرته فذلك الجور".. وأنشدوا:
إذا السر والإعلان في المؤمن استوى ... فقد عز في الدارين واستوجب الثنا
فإن خــالف الإعـــلان ســـرا فمـا له ... على سعيه فـــضل سوى الكد والعنا
فما خــالص الدينـار في السوق نافق ... ومغشــوشه المردود لا يقتضي المنا
والإسلام حرص كل الحرص على صلاح الظاهر؛ ليبدو المجتمع مجتمعا طاهرا نقيا نظيفا طيبا، ولكنه أيضا اهتم أكثر بنقاء الباطن وجعل عليه المعول، فغالبا ما يكون صفاء الباطن داعيا ومؤديا إلى صلاح الظاهر فالارتباط بينهما لازم.
يقول شيخ الإسلام: "الأمور الباطنة والظاهرة بينهما ارتباط ومناسبة؛ فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أمورًا ظاهرة، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعورًا وأحوالاً" (اقتضاء الصراط المستقيم).
وقال مالك بن دينار: "القلوب كالقدور، والألسنة مغارفها، فإذا تكلم العبد فاسمع ما يقول فإنما يغترف لك لسانه من قلبه".
وهذا المعنى أخذه مالك من الحديث الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)(السلسلة الصحيحة:2841).
وصلاح الظاهر يقوم على أمرين رئيسين:
حسن الخلق: وهو يشمل كل خلق حسن، وأثر محمود، في تعامله مع كل من حوله من الناس أو حتى من الحيوان.
صلاح العمل:
وهو السعي في الأرض بالصلاح والإصلاح، وأداء الحق الظاهر لله ولعباده، والأمر بالمعروف وتكثيره، والنهي عن المنكر وتقليله.. فيدخل في ذلك جميع العبادات الظاهرة، والأعمال الصالحة، والتصرفات المشروعة، والأفعال المحمودة.
وصلاح الباطن:
يكون بصفاء القلب ونقائه، ونظافته وطهارته من كل ما يعيب في النية أو الاعتقاد، أو فيما يبطنه الإنسان من سريرة، أو يكون في قلبه من مرض أو حسد أو ضغن.
يقول الشيخ محمد المداوي: "ونَقَاءَ السَّرِيرَةِ لَيْسَ قَاصِرًا عَلَى أَدَاءِ العِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ فِي الخَفَاءِ، بَلْ بِمَا يَحْمِلُهُ القَلْبُ مِنْ صَفَاءٍ، فَالقَلْبُ إِذَا صَفَا مِنَ الأَحْـقَادِ، وَخَلا مِنَ البَغْيِ وَالغِلِّ وَالحَسَدِ نَجَا صَاحِبُهُ فَكَانَ مِنْ أَفْضَلِ النَّاسِ؛ (وَقَدْ سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَـلُ؟ قَالَ: كُلُّ مَخْمُومِ القَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ. قِيلَ: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ؛ فَمَا مَخْمُومُ القَلْبِ؟ قَالَ: هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لا إِثْمَ فِيهِ وَلا بَغْيَ وَلا غِلَّ وَلا حَسَدَ)رواه ابن ماجه.
إِنَّ الإسلام كما أنه حريص على صلاح ظاهر المسلم وخلقه وعمله، وبيان أن المسلم الصحيح [من سلم المسلمون من لسانه ويده]، فكذلك هو حَرِيصٌ عَلَى أَنْ يَبْـقَى قَلْب المسلم نَقِيًّا سَلِيمًا مِنْ جَمِيعِ الضَّغَائِنِ، وأن يكون صافيا لكل المؤمنين السابقين والحاضرين واللاحقين.
ومن ثم جعل الشارع الكريم من علامات الإيمان دعاء المسلم واستغفاره للذِينَ سَبَقُوهُ وَالَّذِينَ يلحقونه إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}(الحشر:10 ).