أثبتت الدراسات النفسية العديدة أنّنا من خلال سلوك التسامح، نستطيع معالجة الكثير من المشكلات السلوكية والإضطرابات النفسية، ومنها:
التغلّب على المخاوف المرضية، وقهر الإكتئاب، وتعلّم مهارات التكيف الفعّال لمواجهة الضغوط النفسية، وإعادة التأهيل النفسي لحالات الإدمان، ودحض الأفكار اللاعقلائيّة، وإحلال العقلائية محلّها، ورفع دافعية التعليم، والإنجاز، وتحسين صورة الذات التي تُعتبر الأساس في ممارسة السلوكيات الإيجابية والتخلص من السلوكيات السلبية، وتعلّم مهارات التواصل مع الآخرين، وإدارة الذات، ومقاومة الكثير من الأمراض (النفسجسمية)؛ كالسكّري، وضغط الدم، والجلطات، والعقم، وغيرها
أدرك علماء النفس حديثاً أهمية الرضا عن النفس وعن الحياة، وأهمية هذا الرضا في علاج الكثير من الإضطرابات النفسية. ففي دراستين نشرتهما مجلة (دراسات السعادة) تبيّن أن هناك علاقة وثيقة بين التسامح والعفو من جهة، وبين السعادة والرضا من جهة أخرى.
وأكّدت الدراسة أنّ الذي تعوّد على التسامح يكتسب مناعة مع مرور الزمن فلا يحدث له أي توتر نفسي، أو ارتفاع في السكري أو ضغط الدم، واتّضح من خلال الدراسة كذلك أنّ العفو والتسامح يجنِّبا صاحبهما الكثير من الأحلام المزعجة والقلق والتوتر الذي يُسبِّبه التفكير المستمر في الرد على مَن أساء إليه أو الإنتقام منه.
ويقول العلماء: لأن تنسى موقفاً مزعجاً حدث لك، هو أفضل بكثير من أن يضيع الوقت وتصرف طاقة كبيرة من دماغك على التفكير والبحث عن طرق الانتقام، وفي هذا السياق تأتي الحكمة التي تقول: «إذا ما أظلّ رأسك همُّ، فقصِّر البحث فيه لكي لا يطول"!
كما وجد علماء البرمجة اللّغوية العصبيّة أن أفضل منهج لتربية الطفل السوي هو التسامح معه، فكل تسامح هو رسالةٌ إيجابية يتلقّاها الطفل، وبتكرارها يعوِّد نفسه على ممارسة التسامح أيضاً وهو ما يُبعد عنه روح الانتقام المدمِّرة التي يعاني منها معظم الشباب في عالمنا المعاصر.
إنّ الشخصية المتسامحة في الفهم النفسي لها، تتّسم بمجاهدة شديدة للنفس والهوى، وهذا من صفات القوّة والرِّفعة والتمكّن الكامل من زمام النفس، وما خضوعها للتسامح إلا دليلٌ على سموِّها ورقّتها في مقابلة الإساءة، بالإحسان والشر بالخير.
ويضيف علماء الصحّة النفسية من خلال دراساتهم الميدانيّة، أنّ للتسامح مفعولاً إيجابياً على الصحة النفسية للإنسان، فالتسامح يُعتبر من أقوى أساليب العلاج لما يُسمّى بالأمراض (النّفسجسميّة) التي هي أمراض عضويّة تعود لأسباب نفسيّة.
وبحسب النظرية المعرفية، فإنّ مستوى صحّة الإنسان النفسية وسعادته وتوافقه مع نفسه ومع المجتمع، يتوقّف على طبيعة ما يحمله من أفكار وما يتبنّاه من قناعات، فإذا تبنّى الإنسان أفكاراً لا عقلانيّة، أدّى ذلك إلى إصابته بالمرض والإضطراب، والعكس صحيح.
وآية التسامح في قوله تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، تشمل هذا المبدأ، ولذلك فبمجرد تبنِّي الفرد لقيمة هذه الفكرة الإيجابية: عدم استواء السيِّئة والحسنة، سيكون قادراً على ممارسة سلوك التسامح.
أمّا المدرسة الإنسانية في العلاج النفسي، فترى أنّ الإنسان خيِّر بالفطرة نبيل بطبيعته الإنسانية، الأمر الذي يدعونا إلى أن نتفاءل بأن في داخل الإنسان – أيّ إنسان، حتى العدوّ – خيِّراً ما، وما علينا حتى نُخرجه من القوّة إلى الفعل إلّا أن نُبدي اهتماماً وتقديراً بكرامته أكثر، وعندها سوف يُخرج ما بداخله من كنوز وخير هو أشبه بالمعادن النفيسة في باطن الأرض.
كما لاحظت دراسات علم النفس الإجتماعي وأنماط الشخصية، أنّ التسامح من ملامح الشخصية السوية التي تملك نظرة إيجابية للحياة، أمّا الشخصيات التي تُعاني من اضطراب كـ(الشخصية السيكوباتيّة)، فهي لا تعرف الحبّ والرحمة والتسامح، ولذلك ترى صاحبها نصّاباً، محتالاً، مخادعاً، لا يحترم القوانين والأعراف والتقاليد، وليس لديه ولاء إلا لملذّاته.
ومثلها أيضاً (الشخصية البارانوية)، وهي شخصية (الشكّاك المتعالي)، حيث أن محور هذه الشخصية هو الشك في كلّ الناس، وسوء الظنّ بهم، وتوقّع العداء والإيذاء منهم، فكلّ الناس في نظره أشرار متآمرون، وهو كنظيره صاحب الشخصية السيكوباتيّة، لا يعرف الحبّ والرحمة والتسامح؛ لأنّه في طفولته المُبكِّرة لم يتلقّ الحبّ من مصادره الأساسية (الوالدين)، لذلك لم يتعلّم قانون الحبّ والتسامح، وهو اكتسابيّ ولا شكّ.
والشخص الباروني دائمُ الإتِّهام لغيره، ومهما حاول الطرف الآخر إثبات براءته، فلن ينجح في ثنيه عن الإنتقام، بل يزيد في شكِّه وسوء ظنِّه، حتى أن حالات التودّد والتقرّب من الآخرين تجاهه تُقلقه وتُزيد من شكوكه.
من ذلك كلّه، نخلص إلى أنّ من أهم صفات الشخصيات المضطربة، والتي تُعاني من القلق المُزمن، هو أنّها لا تعرف التسامح، ولم تُجرِّب لذّة العفو ونسيان الإساءة .