تفسير قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمهون
تفسير قوله تعالى:
﴿ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾
قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [البقرة: 15].
قوله: ﴿ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ﴾ جواب لسؤال مقدَّر، كأنه قيل: من الذي يعاقِبهم وينتصر للمؤمنين؟ فقال: ﴿ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ﴾؛ ولهذا قدَّم اسم الله عز وجل؛ تقوية للحكم، وتنويهًا بشأن دفاعه عز وجل عنهم، ونصرِه لهم.
والمعنى ﴿ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ﴾؛ أي: الله يستهزئ ويَسخَر بهم؛ مجازاةً لهم على استهزائهم وسخريتهم بالمؤمنين؛ لأن الجزاء من جنس العمل، وإلا فإنه عز وجل لا يوصف بالاستهزاء والسخرية والمخادعة والمكر والكيد مطلقًا، وإنما يستهزئ عز وجل بالمستهزئين به وبدينه وبرسله وأوليائه، ويخادع المخادعين في ذلك، ويمكُر بالماكرين، ويكيد للكائدين.
ووصفُه بأنه يستهزئ بالمستهزئين، ويخادع المخادعين، ويمكر بالماكرين، ويكيد للكائدين - من كماله عز وجل وتمام قدرته وقوَّتِه؛ ولهذا قال هنا: ﴿ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ﴾، كما قال تعالى: ﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾ [النساء: 142]، وقال تعالى: ﴿ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30]، وقال تعالى: ﴿ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ﴾ [يوسف: 76].
وقال تعالى: ﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا ﴾ [الطارق: 15، 16]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 79].
كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [الأنعام: 10، الأنبياء: 41].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية[1]: "وأما الاستهزاء والمكر بأن يظهر الإنسان الخير والمراد شرٌّ، فهذا إذا كان على وجه جحدِ الحق وظلم الخلق، فهو ذنبٌ محرَّم، وأما إذا كان جزاءً على من فعل ذلك بمثل فعله، كان عدلًا حسنًا، قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ﴾ [البقرة: 14، 15]، فإن الجزاء من جنس العمل، وقال تعالى: ﴿ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا ﴾ [النمل: 50]، كما قال: ﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا ﴾ [الطارق: 15، 16]، وقال: ﴿ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ﴾ [يوسف: 76]، وكذلك جزاء المعتدي بمِثل فعله، فإن الجزاء من جنس العمل، وهذا من العدل الحسن، وهو مكر وكيد إذا كان يظهر له خلاف ما يبطن".
ومن استهزائه عز وجل بهؤلاء المنافقين المستهزئين أنْ زيَّن لهم ما هم عليه من الأعمال والأحوال الخبيثة، حتى ظنُّوا أنهم مع المؤمنين، لما لم يسلِّط الله المؤمنين عليهم، وعصَم دماءهم وأموالهم، مع ما أعدَّ لهم من العذاب الأليم في الآخرة في الدرك الأسفل من النار.
قال عز وجل مخاطبًا نبيَّه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ﴾ [الرعد: 32].
ومن ذلك ما يقال لهم في عرصات القيامة: ﴿ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴾ [الحديد: 13].
﴿ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾: معطوفٌ على قوله: ﴿ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ﴾، وهو من استهزاء الله بهم، ﴿ وَيَمُدُّهُمْ ﴾؛ أي: يزيدهم على وجه الإملاء والترك لهم في عتوِّهم وتمرُّدهم.
﴿ فِي طُغْيَانِهِمْ ﴾ الطغيان مجاوزة الحد، قال تعالى: ﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ﴾ [الحاقة: 11]، وقال تعالى: ﴿ فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 37 - 39]، وقال تعالى: ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾ [العلق: 6، 7]؛ أي: يتجاوز حدَّه.
ومنه سمِّي الطاغوت؛ لتجاوُزِه الحدَّ في الكفر.
ومعنى ﴿ فِي طُغْيَانِهِمْ ﴾؛ أي: فيما هم فيه من مجاوزة الحد في الكفر والنفاق والخداع والإفساد والاستهزاء، كما قال تعالى: ﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾ [الأعراف: 182، 183، القلم: 44، 45]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [آل عمران: 178]، وقال تعالى: ﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [المؤمنون: 55، 56].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لَيُملي للظالم حتى إذا أخَذَه لم يُفلِتْه، ثم قرأ: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102]))[2].
﴿ يَعْمَهُونَ ﴾ حال، أي: حال كونهم يعمهون، والعَمَهُ: الضلال والحيرة وانطماس البصيرة، كالعمى بالنسبة للبصر؛ أي: يتخبطون في الضلال والحيرة، لا يَعرفون الحق ولا يهتدون إليه، كما قال تعالى في إخوانهم الكفار: ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [الأنعام: 110].
[1] انظر "مجموع الفتاوى" (20/ 471).
[2] أخرجه البخاري في التفسير - قوله: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ (4686)، ومسلم في البر والصلة والآداب- تحريم الظلم (2583)، والترمذي في التفسير (3110)، وابن ماجه في الفتن (4018)- من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.