باب تعظيم حرمات المسلمين، وبيان حقوقهم، والشفقة عليهم ورحمتهم:
قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ﴾ [الحج: 30]
وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32]
وقال تعالى: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الحجر: 88]
وقال تعالى: ﴿ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [المائدة: 32].
قال سَماحة العلَّامةِ الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -:
قال المؤلف رحمه الله تعالى: "باب تعظيم حرُمات المسلمين، وبيان حقوقهم، والشفقة عليهم ورحمتهم"
فالمسلم له حقٌّ على أخيه المسلم، بل له حقوق متعددة، بيَّنها النبيُّ صلى الله عليه وسلم في مواضعَ كثيرة:
منها: إذا لقيه فليُسلِّم عليه، يُلقي عليه السلام، يقول: السلام عليكم، ولا يحل له
أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيُعرِض هذا ويعرض هذا، وخيرُهما الذي يبدأ بالسلام.
ولكن لك أن تهجره لمدة ثلاثة أيام، إذا رأيت في هذا مصلحة، ولك أن تهجره أكثر إذا رأيته
على معصية أصَرَّ عليها ولم يتُبْ منها، فرأيت أن هجْرَه يحمله على التوبة؛ ولهذا كان القول الصحيح
في الهجر أنهم رخَّصوا فيه خلال ثلاثة أيام، وما زاد على ذلك فيُنظَر فيه للمصلحة
إن كان فيه خيرٌ فليفعل، وإلا فلا، حتى لو جاهر بالمعصية، فإذا لم يكن في هجره مصلحة فلا تهجُرْه.
ثم ساق المؤلف عدة آيات منها قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ﴾ [الحج: 30]
ومن يعظِّم حرُماتِه: أي ما جعَلَه محترمًا من الأماكن أو الأزمان أو الأشخاص، فالذي يعظِّم
حرُماتِ الله فهو خيرٌ له عند ربه، ومن كان يَكرهُ أو يشُقُّ عليه تعظيم هذا المكان كالحرَمينِ مثلًا
والمساجد، أو الزمان كالأشهُر الحُرُمِ "ذي القعدة وذي الحجة والمحرَّم ورجب" وما أشبه ذلك
فليَحمِل على نفسه وليُكرِهْها على التعظيم.
ومن ذلك تعظيم إخوانه المسلمين، وتنزيلُهم منزلتهم؛ فإن المسلم لا يحلُّ له أن يَحقِرَ أخاه المسلم
قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((بحسْبِ امرئ من الشرِّ أن يحقر أخاه المسلم)).
"بحسب" الباء هنا زائدة، والمعنى: حسْبُه من الشر أن يحقر أخاه المسلم بقلبه، أو أن يعتديَ
فوق ذلك بلسانه أو بيده على أخيه المسلم، فإن ذلك حسْبُه من الإثم والعياذ بالله.
وكذلك أيضًا تعظيم ما حرَّمه الله عزَّ وجلَّ في المعاهدات التي تكون بين المسلمين وبين الكفار
فإنه لا يحل لأحد أن ينقض عهدًا بينه وبين غيره من الكفار، ولكن المعاهدون ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الذين أتَمُّوا عهدهم، فهؤلاء نتمِّم عهدهم.
القسم الثاني: الذين خانوا أو نقَضوا، قال الله تعالى: ﴿ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 7]
فهؤلاء يَنتقض عهدُهم كما فعَلتْ قريش في الصلح الذي جرى بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم
في الحُدَيْبية، فإنهم وضعوا الحرب بينهم عشر سنين، ولكن قريشًا نقضوا العهد، فهؤلاء ينتقض عهدُهم
ولا يكون بيننا وبينهم عهد، وهؤلاء قال الله فيهم:
﴿ أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [التوبة: 13].
والقسم الثالث:من لم ينقُضِ العهدَ لكن نخاف منه أن ينقض العهد، فهؤلاء نُبلِّغُهم بأنْ لا عهد بيننا وبينهم
كما قال تعالى: ﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ﴾ [الأنفال: 58].
فهذه من حرُمات الله عزَّ وجلَّ، وكل شيء جعله الله محترمًا من زمان أو مكان أو أعيان فهو من حرمات الله عز وجل
فإن الواجب على المسلم أن يحترمه؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ﴾ [الحج: 30].
وقال: ﴿ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32].
الشعائر: العبادات الظاهرة، سواء كانت كبيرة أم صغيرة؛ مثل الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا
والمروة، والأذان والإقامة، وغيرها من شعائر الإسلام، فإنها إذا عظَّمَها الإنسان كان ذلك دليلًا على تقْواه
فإن التقوى هي التي تَحمِلُ العبدَ على تعظيم الشعائر.
أما الآية الثالثة، فهي قوله تعالى: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الحجر: 88]
وفي الآية الأخرى: ﴿ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 215]، والمعنى: تَذلَّلْ لهم
في المقال والفعال؛ لأن المؤمن مع أخيه رحيم به، شفيق به، كما قال تعالى في وصف النبي
صلى الله عليه وسلم ومن معه: ﴿ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29].
وفي قوله تعالى: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الحجر: 88] دليلٌ على أن الإنسان مأمور
بالتواضع لإخوانه وإن كان رفيع المنزلة، كما يرتفع الطير بجناحه، فإنه وإن كان رفيع المنزلة فليخفض
جناحه وليتذلل وليتواضع لإخوانه، وليعلم أن من تواضَعَ لله رفَعَه الله عزَّ وجلَّ، والإنسان ربما يقول:
لو تواضَعتُ للفقير وكلَّمت الفقير، أو تواضعت للصغير وكلَّمتُه، أو ما أشبه ذلك، فربما يكون في هذا
وضعٌ لي، وتنزيل من رُتبتي، ولكن هذا من وساوس الشيطان، فالشيطان يدخل على الإنسان في كل شيء
قال تعالى عنه: ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ
وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 16، 17].
فالشيطان يأتي الإنسان ويقول له: كيف تتواضع لهذا الفقير؟ كيف تتواضع لهذا الصغير؟ كيف تكلِّم فلانًا؟
كيف تمشي مع فلان؟ ولكن من تواضَعَ لله رفَعَه الله عزَّ وجلَّ، حتى وإن كان عالمًا أو كبيرًا أو غنيًّا
فإنه ينبغي أن يتواضع لمن كان مؤمنًا، أما من كان كافرًا فإن الإنسان لا يجوز له أن يخفض جناحه له
لكن يجب عليه أن يخضع للحقِّ بدعوته إلى الدين، ولا يستنكف عنه ويستكبر فلا يدعوه، بل يدعوه ولكن
بعزة وكرامة، ودون إهانة له، فهذا معنى قوله: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الحجر: 88].
وفي الآية الثانية: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 215]
فهذه وظيفة المسلم مع إخوانه، أن يكون هيِّنًا ليِّنًا بالقول وبالفعل؛ لأن هذا مما يوجِب المودةَ والأُلفة
بين الناس، وهذه الألفة والمودة أمرٌ مطلوب للشرع؛ ولهذا نهى النبي عليه الصلاة والسلام
عن كل ما يوجب العداوةَ والبغضاء، مثل البيع على بيع المسلم، والسَّوْمِ على سَوْمِ المسلم
وغير ذلك مما هو معروف لكثير من الناس، والله الموفق.
المصدر: «شرح رياض الصالحين» (2/ 540 - 544)
سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين.