أصبحت كثير من مجتمعاتنا تتفنن في تعسير السبل ووضع العراقيل أمام الزواج المبكر، سواء من خلال سن القوانين، أو المبالغة في وضع شروط الزواج ورفع تكاليفه وغلاء المهور وغيرها، وقد دعمت وسائل الإعلام النظرة الاجتماعية السلبية للزواج المبكر، وربطت بينه وبين المشكلات الأسرية والصحية، بل إن وسائل الإعلام ساهمت في الترويج لمفاهيم كثيرة خاطئة، تجاوزت التنفير من الزواج المبكر إلى التركيز على المظاهر السطحية للزواج مثل: الحفلات والملابس والكماليات وغيرها، كما روجت تلك الوسائل لمواصفات الزوجين بعيداً عن الخلق والدين، فالزوج لا بد أن يكون غنياً ووسيماً، أما الزوجة فيجب أن تكون جميلة وموظفة، الأمر الذي كان له أثره في تغير نظرة الشاب والفتاة للزواج، مما أدى إلى تراجع الزواج المبكر.
إحصاءات مخيفة:
في الوقت الذي أعملت فيه التغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية أثرها على المجتمعات الإسلامية أصبح الزواج حلماً يراود ملايين الشباب في ديار المسلمين، فقد كشفت دراسة حديثة أن 35% من الفتيات في كل من: الكويت وقطر والبحرين والإمارات بلغن مرحلة العنوسة، وانخفضت هذه النسبة في كل من: اليمن وليبيا، لتصل إلى 30%، في حين بلغت النسبة20% في كل من: السودان والصومال، و10% في سلطنة عُمان والمغرب، وكانت في أدنى مستوياتها في فلسطين، حيث مثلت نسبة الفتيات اللواتي فاتهن قطار الزواج 1%، وكانت أعلى نسبة قد تحققت في العراق إذ وصلت إلى 85%.
وقد أوضحت الإحصائيات أن العنوسة لا تقتصر على النساء فقط، فهناك نسبة كبيرة من الرجال يعانون هذه الظاهرة، ففي سورية بيَّنت الأرقام الرسمية أن أكثر من 50% من الشباب السوريين لم يتزوجوا بعد، في حين لم تتزوج 60% من الفتيات اللواتي تتراوح أعمارهن ما بين 25 و29 عاماً، وبلغت الفتيات اللاتي تخطى عمرهن 34 عاماً دون زواج أكثر من نصف النساء غير المتزوجات.
وفي لبنان: أكدت إحصائية أجرتها وزارة الشؤون الاجتماعية والصحة اللبنانية أن نسبة الذكور غير المتزوجين ما بين 25 و30 سنة تبلغ 95.1% والإناث 83.2%.
أما في مصر: فقد أكدت دراسة صادرة عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية أن نسبة غير المتزوجين من الشباب من الجنسين بلغت 29.7% للذكور، و28.4% للإناث.
وأشارت نتائج دراسة أردنية مماثلة إلى تأخر عمر الفتيات عند الزواج الأول إلى 29.2سنة، بينما يتأخر إلى 31.9 سنة لدى الذكور.
وفي الجزائر: كشفت الأرقام الرسمية التي أعلنها الديوان الجزائري للإحصاء أن هناك أربعة ملايين فتاة لم يتزوجن بعد، على الرغم من تجاوزهن الرابعة والثلاثين، وأن عدد العزاب تخطى 18 مليوناً من عدد السكان البالغ 30 مليون نسمة.
أما في السعودية: فقد حذرت دراسة علمية قدمها الدكتور عبد الله الفوزان - أستاذ علم الاجتماع المشارك بجامعة الملك سعود بالرياض - من أخطار العنوسة، وذكرت تلك الدراسة أنه إذا استمرت ظاهرة الزواج المتأخر في المجتمع فإنها ستخلف أربعة ملايين فتاة عانس في السنوات الخمس المقبلة؛ في الوقت الذي يصل فيه عدد الفتيات العوانس الآن إلى مليون ونصف المليون فتاة.
وهكذا أصبحت العنوسة شبحاً يهدد الشباب من الجنسين في الوطن العربي.
* راغبات بشدَّة:
التقينا مجموعةً من الشباب والفتيات وسألناهم عن رأيهم في الزواج المبكر؛ فوجدنا معظم الفتيات الملتزمات لا يمانعن في الزواج المبكر، ولكن فئة أخرى من الفتيات المتأثرات بما يقال في وسائل الإعلام يرين ضرورة الحصول على الشهادات العلمية؛ لأنها هي التي تحقق الأمان بالنسبة للمرأة؛ فإذا ما ترك الزوج زوجته لأي سبب تستطيع المرأة أن تعمل وتكسب.
تقول أسماء- داعية وتعمل في تزويج الشباب المسلم -: "منذ سنوات عديدة تروِّج وسائل الإعلام للصورة السلبية للزواج المبكر، وتدعو الشباب والفتيات إلى تأجيل الزواج إلى ما بعد الانتهاء من التعليم، والحصول على عمل مناسب، وتحقيق ذاتهم، حتى وإن كان لديهم قدرات مادية عالية، لكني أشجع الزواج المبكر؛ لأنه يساعد الشباب والفتيات على تحصين أنفسهم، والتخلص من الضغوط النفسية والعصبية التي تواجههم؛ خاصة في ظل الإغراءات والتحديات وانتشار ثقافة الفضائيات التي تشجع على الرذيلة" .
وتؤيد منى الجوهري - 18 سنة طالبة بالمرحلة الثانوية - ما سبق وتضيف قائلة: "أمي تزوَّجت في سن 16 عاماً، والحمد لله أنجبت ثمانية أطفال وهي في شبابها، وكبرنا، وهي الآن بصحة جيدة، وتحب أبي، وتستمع لكلامه، وتلتزم بما يأمر عن قناعة وطيب خاطر، وأنا أتمنى أن أكون كذلك".
وتقول هدى لاشين - 21 سنة طالبة بكلية العلوم -: "لدينا أستاذات جامعيات في مختلف التخصصات العلمية ولم يتزوجن، وقد تجاوز عمرهن الخامسة والثلاثين، ومنهن من تجاوزت الأربعين عاماً "عوانس"، وكثيرات منهن جميلات، ولكن الذي حدث أنهن تمسكن أولاً بالتعليم دون الزواج، وكانت شروطهن في طالبي الزواج صعبة، فتركهن القطار ومعظمهن نادمات، فالمملكة الحقيقة التي تسعد بها المرأة هي الزوجية والأمومة وأنا أفضل الزواج المبكر، وأتمنى أن يكون الزوج يناسبني: اجتماعياً ومادياً وثقافياً".
أما مها حمدي - طالبة بكلية الزراعة - فتقول: "لقد تزوجت وأنا في السنة الأولى، وكانت مسؤولية البيت والحمل بالنسبة لي صعبة في الشهور الأولى فقط؛ لكني تكيفت بعد ذلك مع زوجي الذي كان يساعدني في استذكار دروسي؛ حيث إنه يعمل معيداً بالكلية، ولكن يكفيني الاستقرار النفسي الذي أعيش فيه، والوقت ثمين في حياة المسلم، وحسن الاستفادة منه أثمن وأغلى، وبتنظيم الوقت يتم الزواج ولا تفوت الدراسة، وقد لاحظت أن معظم زميلاتي في الجامعة يطمحن إلى الزواج، فمن التحقت بالجامعة لا يقلقها التعليم أو المستقبل العلمي كثيراً، ولكن الزواج وصورة فتى الأحلام هي التي تهمها، وخصوصاً مع ارتفاع نسبة العنوسة".
مؤيدون:
إذا كان يصعب على الفتاة تحديد سن زواجها لأن هذا متوقف على من يتقدمون لخطبتها؛ فإن معظم الأمر متعلق بالشباب، وهناك نوعان منهم: نوع يعيش في حرية واختلاط ولا يريد أن يتحمل مسؤولية أسرة ورعاية أطفال، وآخر ملتزم دينياً ويريد الزواج؛ لكن تحكمه الظروف.
يقول حسنين التهامي - 20 سنة - : "ظروفي المعيشية صعبة، ولكني أتعفف بالصيام حتى أستطيع الزواج".
أما شوقي إبراهيم - 23 سنة - فيقول: "القول بأن الشاب يجب أولاً أن يدَّخر مبلغاً من المال ثم يتزوج قول خاطئ؛ لأنني تزوجت بالقليل وبأثاث يسير، وكافَحَتْ معي زوجتي، وبفضل تدبيرها ورعايتها أكرمنا الله، وأنا الآن أعمل بجانب إكمال دراستي، وزوجتي تهيئ لي الجو المناسب، فالزواج معين على الدراسة ومهيئ لها؛ لأنه سبب الاستقرار والسكن، والتفرغ الحقيقي للدراسة لا يحصل بترك الزواج، ولكن بالتجرد من المشاغل الأخرى وإضاعة الوقت سدى".
أحمد جمال - شاب فلسطيني يعيش بالقاهرة منذ 18 سنة - يقول: " الزواج المبكر وسيلة شريفة، وغض للبصر، وعفة، و تكثير للنسل، وقد روي عن رسولنا الكريم- صلى الله عليه وسلم- قوله: "تزوجوا الولود الودود". وسلاح المسلمين يجب أن يكون الزواج المبكر والنسل؛ لكي نواجه أعداء الإسلام الذين تكاثروا علينا، ويجب ألا نحتج بالظروف المادية والاقتصادية، ففي اليسر بركة".
رأي العلماء:
الدكتور جلال عجوة - أستاذ الحديث بكلية أصول الدين جامعة الأزهر - يقول: "الزواج المبكر له أهمية خاصة، وفي هذا الوقت الذي تنتشر فيه الإغراءات وفرص الفتنة والاختلاط، وما تبثه وسائل الإعلام؛ يجب على الشاب أن يؤهِّل نفسه مبكراً من الناحية التربوية والنفسية لأن يتحمل مسؤولية الزواج والإنجاب، ويكون بحق أميناً على نفسه وأسرته.
وقد كان سلفنا الصالح وصحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يتزوجون مبكراً، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من استطاع منكم الباءة فليتزوج». وقد خُطِبَت السيدة عائشة لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهي دون العاشرة، وأصبحت أُماً للمؤمنين، تَروي الحديث عن رسول الله، وتعلم المسلمين أمور دينهم".
ويؤكد الدكتور عبد العظيم المطعني- الأستاذ بالأزهر- هذا الكلام بقوله : "لابد من تشجيع الشباب والفتيات على الزواج المبكر، فالزواج مطلب فطري وشرعي دعا إليه الإسلام، وشرَّع ما ينظمه، فهو السبيل لإعمار الأرض، وعبادة الله جيلاً وراء جيل، فعلى مجتمعاتنا أن تعي أهمية الزواج، وتيسر السُبل إليه، وتسرع الخطا نحوه ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً".
وأضاف المطعني: "لابد من العمل على خفض تكاليف الزواج، والرجوع إلى السُنَّة النبوية الشريفة، ويكون تقييم الرجل من خلال دينه وتمسكه بصحيح الإسلام، وليس من خلال مقدرته المالية، ولا بد أيضاً أن تتمسك المرأة المسلمة بتعاليم الإسلام، وأن تضع نصب عينيها اختيار الرجل على أساس دينه ومعاملته، وليس من أجل قدراته المادية، كما يجب على الآباء مساعدة أبنائهم وعدم المغالاة في المهور، أو في متطلبات الحياة الزوجية".
وفي دراسة للدكتور فهد السنيدي - أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - أشار إلى أهمية الزواج المبكر، وعدم تأخير الزواج بحجة الدراسة، فالجمع بين الزواج والدراسة يحقق مطلبين شرعيين في آن واحد، فالزواج رغَّب فيه الشارع وحث عليه، فهو حاجة فطرية للإنسان، كما أن تحصيل العلم مطلب شرعي، ولم يأت من الشارع ما يمنع الجمع بينهما، ما دام الوقت متسعاً لهما معاً، فهما كأداء الصلاة والزكاة والصيام في الوقت المتسع لها جميعاً.
ويضيف الدكتور فهد: "إن الزواج أمر فطريٌّ ومطلب شرعيٌّ، يُخشَى بسبب تركه أو تأخيره حدوث الفتنة، بخلاف الدراسة فلا ضرر في تأخيرها، ولا شك أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ولعل في الجمع بين الدراسة والزواج استغلالاً لأفضل مراحل العمر في تحقيق ما لا بدَّ منه على أفضل وجه ممكن، وكذلك توظيف لقدرات الشخص الجسمية والعقلية والفكرية في آن واحد، وإشباع كل منها في مجالاتها".
فوائد جمَّة:
الدكتورة أسماء يونس - أستاذة علم الاجتماع - تقول: "إنني أفضِّل زواج الفتاة وعمرها ما بين 20- 25 سنة، أما إذا تأخرت عن ذلك فلا تستطيع أن تتكيف مع زوجها نفسياً واجتماعياً، فمرونة التكيف تكون أكثر مع الزوجة صغيرة السن، أما الفتاة كبيرة السن فقد حددت أهدافها مسبقاً، ولها نظرة ثابتة في الحياة؛ مما يشكل عائقاً في تأقلمها مع حياتها الجديدة، كما أن الزواج المبكر يتيح فرصة أكبر للحمل والولادة وتنظيم الأسرة؛ لإعطاء كل طفل حقه في الرعاية والاهتمام؛ حيث تكون الفتاة في قمة نشاطها البدني والعقلي، وتكون قدرتها على التحمُّل أكبر.
إلى جانب وجود طاقة وقدرة على العطاء العاطفي والنفسي والحركي، ومقدرة أيضاً على ممارسة الأمومة بنضج أكبر، وأنصح الفتيات بالزواج المبكر إذا أتاهن من يرضين دينه وخلقه؛ فبالزواج تحفظ الفتاة نفسها وتستقر نفسياً".
الدكتور يسري عبد المحسن - أستاذ الطب النفسي بجامعة القاهرة - يقول: "لا أعتقد أن هناك شاباً سويّاً - أو فتاة - يرفض أو يؤجل الزواج، فالزواج المبكر مطلب طبيعي للشباب، فالقوة الجسمية والاستعداد البدني أمور ترغِّب في النكاح، ووقت تكاملها مرحلة الشباب، وكلما تقدم العمر قلَّت العوامل الفطرية الدافعة إلى النكـاح، لكن هذا يتوقف على الظروف الاقتصادية والاجتماعية" .
أما الدكتورة ناهد الطويل - المتخصِّصة بالنساء والتوليد - فتقول: "من الناحية الصحِّية الزواج المبكر أفضل للمرأة وهي ما بين 18- 25 سنة؛ لأنه بعد ذلك توجد صعوبات في الحمل والولادة ونسبة العقم، وتزيد هذه الصعوبات كلما ارتفع سنُّ الزواج".
وتضيف الدكتورة ناهد: "من ناحية أخرى ثبت أن الزواج يقي الرجال والنساء متاعب الصداع العارض والمزمن؛ حيث يساعد الشعور النفسي بالعلاقة المستديمة المستقرة على تخفيف حدة اضطراب الجسم، وعلى إفراز هرمونات السعادة بكمٍّ أكبر من هرمونات القلق والخوف والحزن". |
|
|
|