1- ï´؟ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ï´¾ [النساء: 1].
تبدأ السورة بهذه الآية التي تدعو إلى تقوى الله تعالى، ومعها وقفاتٌ:
أ- في ï´؟ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ï´¾ ذُكِر سبحانه بـ ï´؟ رَبَّكُمُ ï´¾ لا باسم ذاته العلية ï´؟ اللَّه ï´¾، والمراد هو تنبيه ذهن المستمع إلى ما تَعنيه هذه الكلمة، والربُّ هو مالك الشيء الذي يُعنَى بما يَملك، ويُصلح شأنَه، ويُدبِّر أمره، ويُخبر هذا الابتداءُ الإنسانَ أنه ملكٌ لله - تعالى - وأن هذه الملكية تتأتَّى من أن الله - تعالى - هو الذي خلقه وخلَق زوجه ووهبه الذرية وأكثَرَ نوعه، وأنه مِن ثمَّ هو مَن يَجب على الإنسان أن يعبده.
إن على الإنسان أن يَبذل عبوديته لمالكِه، ولا يوجد مَن تتحقَّق فيه هذه الصفة غيره - سبحانه وتعالى - وأما الأشياء التي صرَف الناسُ عبادتهم إليها - كالأصنام مثلاً - فإنها مملوكة للإنسان نفسه؛ بصُنعِه إياها، أو بما بذَل لها من مال، وإذا قُلِبت المعادلة، فقد أضاع الإنسان الطريقَ، وغفَل عن ماهية الصِّلة الرابطة بينه وبين المعبود، فعلَّق قلبه بما ليس في مقدوره شيءٌ، وها هو الباري - عزَّ وجلَّ - يُنبِّهه لوضع الصلة في موضعها الصحيح، ويدعوه إلى سلوك الخطِّ ذي المسار القويم.
ولأن الله - تعالى - هو المالك البارئ؛ فإنه الأعلم بما يُصلِح شؤون مخلوقاته، ومن هنا اشتملت السورة المُبارَكة على جملة من الأحكام التعبُّدية، والقضايا الاجتماعية، والشؤون الأسرية، والعلاقات المجتمعية وغيرها، وكأنه - سبحانه - يضَع الإنسان أمام حقيقتين: أولاهما: هي أنه ملك لله تعالى، وثانيتهما: هي أن إدراك هذه الحقيقة والإيمان بها لا بدَّ أن يَقود إلى امتثال الأحكام المبسوطة في السورة، فهي مِن وَضعِ الخالق لمخلوقه، وإنَّ تمثُّلَها يجعل الإنسان يتحرَّك في دائرة الناموس الذي يَكفُل له حياة طيبة، ويُفضي به إلى آخرة مرضية.
ب- ï´؟ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ï´¾، والمراد بـ ï´؟ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ï´¾ - والله أعلم - هو النوع الواحد، فكما أن الملائكة نوع، والجن نوع، فإن الإنسان نوع أيضًا، ولكلٍّ من هذه الأنواع خصائصها المشتركة التي تجعلهم يتوافقون فيما بينهم، ومعنى هذا أن حواء خُلقت مما خُلق منه آدم - عليهما السلام - وأنها لم تؤخَذ من ضلعه بالمعنى الحرفيِّ للعبارة، والله أعلم.
وإن الله - تعالى - إذ أوجد الإنسان فقد أوجد معه زوجًا تُشاركه الطبائع والصفات، ومِن هذَين المخلوقين المُنتسبَين إلى ï´؟ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ï´¾؛ أي: نوع واحد، بثَّï´؟ رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً ï´¾ بالطبائع والخصائص البشرية المعروفة، والتي يُشكِّل الرَّحِم قطبًا أساسيًّا فيها، والتي تتطلَّب أحكامًا ضابطة لتُمارس دورها المناط بها في الحياة، وقد ذكَر القرآن الكريم طائفة من هذه الأحكام في هذه السورة المُبارَكة.
ج- إن الله - تعالى - دعا عباده إلى خشيته، وخاطبهم بصفة تَملُّكه وخَلقِه إياهم، فقال: ï´؟ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ï´¾، ثم أعاد عليهم الدعوة بـï´؟ اتَّقُوا ï´¾؛ لمزيد تأكيدٍ وبيانٍ لأهمية التقوى، غير أنه في هذه المرة قرن الدعوة باسمه الجليل ï´؟ اللَّه ï´¾ فقال: ï´؟ وَاتَّقُوا اللَّهَ ï´¾، ولعلَّ ذلك مردود إلى أن الناس كانوا يُعلِّقون قلوبهم بأشياء تحلُّ محلَّ ألوهيَّة الله - تعالى - من مثل ما فعَل الكافِرون في تشبُّثهم بالآلهة المختلفة، فكان المَطلوب أولاً إزالة الغِشاوة عن الأعيُن، وتبصير الناس بأن أصل منشئِهم وعائديَّة ملكيَّتهم إنما هو لربِّهم، فإن أقرُّوا بهذه الربوبيَّة، لم يعد للآلهة مكان في قلوبهم، وخضَعوا بعد ذلك لألوهية الله – تعالى - وإن هذا التدرج هو الذي اقتضى - والله أعلم - أن يقول أولاً: ï´؟ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ï´¾ ثم بعد ذلك: ï´؟ وَاتَّقُوا اللَّهَ ï´¾.
وفي قوله: ï´؟ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ï´¾ ربط ï´؟ الْأَرْحَام ï´¾ باسمه الجليل - سبحانه - تنويهًا بعظيم شأنها، ثم إن لتقوى الله - تعالى - ورعاية الأرحام مظاهرَ ملموسةً، وحقائقَ قلبيةً، وإن الحقيقة القلبية هي الأساس في الصدق والقَبول، وهي مما لا يطَّلع عليه غيرُ الله - سبحانه وتعالى - فذكَّر - جل شأنه - الناسَ بصفة المراقبة، فقال: ï´؟ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ï´¾؛ ليَعلموا أن الله رقيب عليهم؛ فيُراقِبوا قلوبهم لتصير خلجاتها وحركاتها خالصةً لطاعته، ومتوافقة مع مراده - جلَّ وعلا.
2- ï´؟ وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ï´¾ [النساء: 2].
وهو مِن علاقات المَجاز المُرسَل باعتبار ما كان؛ أي آتوا الذين كانوا يَتامى، أو اللواتي كنَّ يتامى، أموالَهم، وصيغة اليتامى تَصلُح أن تكون جمعًا للمذكر (اليتيم) وللمؤنث (اليتيمَة)، وهي خاصة بمَن فقَد أباه.
3- ï´؟ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ ï´¾ [النساء: 11]، ï´؟ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ ï´¾ [النساء: 12].
وهذه الآيات حول توزيع الميراث، ومع أن للدَّين السبقَ في الإيفاء، فقد تقدَّم ذِكر الوصية، ومردُّ ذلك إلى أن حرف العطف ï´؟ أَوْ ï´¾ لا يُفيد الترتيب، فيكون المعنى: بعد دَينٍ أو وصية، كما أن تأمُّل الآيات قد يُشعِر أن النِّسَب الواردة فيها تَنطبِق على من هو رخيُّ الحال، وأما ضعيفُه أو المُعدم، فقد لا يكون لَهُما ما يتركانه، وإنَّ مَن يعلمُ أن مِقدار ميراثه وافرٌ؛ بحيث يُتيح له أن يوصي ببعضه - لا يكون في الأغلب مدينًا، بينما يكون غيره من رقيقِي الحال عرضةً للدَّين، بمعنى أن الذين يورِّثون همْ أصحاب الثروة بالدرجة الأولى، وأنَّ تَوزيع ميراثهم لا يتمُّ إلا بعد تنفيذ وصاياهم إن وجِدت، ولأن الأكثر توقُّعًا في هذا الصنف ألا يكونوا مدينين؛ فقد ذُكرت الوصية أولاً، وأما غيرهم من الذين لا يكاد لمُمتلكاتهم أن تَحتمِل التوصية، فقد لا يكون لهم ما يورِّثونه أصلاً، ولئن كانوا مَدينين، استوفي الدَّين مما تركوا، وأما إذا وجِد مورِّثٌ وله توصيةٌ وعليه دَينٌ، فقد استفاضَت الأخبار في أن الأولوية تكون لاستيفاء الدين.
4- ï´؟ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ï´¾ [النساء: 43].
و"مَسَحَ" فعلٌ مُتعدٍّ بنفسه؛ فنقول: مسح يدَه، ومسح وجهَه، ومسح الطاولةَ، ولكنه ورَد في الآية متعديًا بحرف الباء ï´؟ فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ ï´¾، وللباء معانٍ كثيرة في اللغة العربية؛ كالإلصاق والمصاحبة والسببية والتبعيضية والظرفية والقسَم وغيرها، ولربما عُدَّت الباء في ï´؟ بِوُجُوهِكُمْ ï´¾ للإلصاق؛ فيكون الحكم المستنبَط منه اشتراط مسح الوجه كله، وقد تُعَدُّ تبعيضيَّةً؛ فيجوز حينئذٍ الاكتفاءُ بمسح بعض الوجه، وشبيه بهذا مسحُ الرأس في آية الوضوء في سورة المائدة ï´؟ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ï´¾ [المائدة: 6].
5- ï´؟ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ï´¾ [النساء: 92].
إن الحرف "ما" هو للتحريم، وليس للنفي، فلو كان للنفي لما وُجِد مؤمنٌ يَقتُل مؤمنًا إلا خطأً، فإذا قتل مؤمنٌ مؤمنًا خطأً، فعليه تحرير رقبة وديَة يُسلِّمها إلى أهل القتيل، وأما إن كان المقتول مؤمنًا في قومٍ عدوٍّ للمؤمنين؛ كأنْ يكون هؤلاء القوم كافرين، فإن الكَفَّارة في هذه الحال تَقتصِر على تحرير رقبة مؤمنة، ولا تكون له دية، طالَما أنه لم يهاجر إلى جماعة المسلمين، والديَة تُدفع عادةً لأهل القتيل، وهو مال يُعين على التقوية، ولأن المقتول المؤمن مُنتسِب إلى قوم كافرين فإن الدية مَحجوبة؛ لكي لا يَقوى قومه الكافرون بمال المسلمين.
وأما الجزء الثالث من الآية الشريفة، فخاصٌّ بقتل امرئٍ من قومٍ يَربِطهم بالمسلمين ميثاق، ففي هذه الحالة تُسلَّم الدية إلى أهل القتيل، ويُعتق من بين المؤمنين رقبة، وخصَّ العتق بالمؤمنين لمنْع تقوية غير المؤمنين بالرجال، واختلف العلماء في الرقبة الواجبِ تحريرُها، فقال بعضهم: لا بد أنها صامت وصلَّت، فلا ينفع تَحرير الطفل مثلاً، وذكر القرطبي أن هذه الجزئية المتعلِّقة بدية أهل الميثاق منسوخة بقوله سبحانه:ï´؟ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ï´¾ [التوبة: 1]؛ (تفسير القرطبي 5: 326).
إن الرقبة المطلوبَ تحريرُها في هذه الأصناف الثلاثة هي رقبةٌ مؤمِنة، لا تضييقًا على الرقِّ وحسْب، بل وتقويةً لجماعة المسلمين أيضًا، ولأن هذَين الهدفَين يتعلقان بالوسط المؤمن؛ فقد تقدم ذِكر تحرير الرقبة على دفع الدية في الصِّنف الأول، وعلل الزمخشري هذا التقديم بأنْ كما أخرج القاتل "نفسًا مؤمنة عن جملة الأحياء، لزمه أن يُدخِل نفسًا مثلها في جملة الأحرار؛ لأن إطلاقها مِن قَيد الرقِّ كإحيائها"؛ (الكشاف 1: 538)، وتمَّ الاكتفاء بتحرير الرقبة في الصِّنف الثاني؛ لأن أهل المقتول قوم أعداء للمسلمين، وذِكْر: ï´؟ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ ï´¾ يعني - والله أعلم - أنهم في حالة حرب مع المسلمين، ولظروف الحرب أحكامُها الخاصة، وأما في الصِّنف الثالث، فقد تمَّ تقديم الديَة؛ لأن الفِكرة تدور على المقتول غير المؤمن المُنتسِب إلى جماعة بينها وبين المسلمين ميثاق، وقد يَنجم عن قتله خطأً ما يضرُّ الجماعةَ المسلمة ويتسبَّب في إراقة دمائهم؛ ولهذا فقد تقدَّم ذِكر الدية؛ لأنها تدرَأ الشرَّ المُحتمَل وقوعُه على المجموع، ولدفعه الأولويةُ على الحالة الفردية المتمثِّلة بتحرير الرقبة.
ويُمكن أن يُنظر إلى هذه الآية من زاوية أخرى، وهي أن في القتل الخطأ اعتداءً، وإن كان غير مَقصود، على حقِّ الله - تعالى - وعلى حق العباد، وأن تحرير الرقبة كفَّارة عن حق الله - سبحانه - والديَة كفَّارة عن حق الناس؛ ولهذا فإن الصنفَين الأولين يَشتملان على الإيفاء بحق الله - تعالى - الأَوْلَى بالوفاء؛ فتقدم ذكر تحرير الرقبة، وأما الصنف الثالث، فقد تقدَّم فيه حق الناس في الذكر؛ حفاظًا على كيان الجماعة المسلمة وعلى نفوس أفرادها، ولحِفظ النفس السبقُ والأولوية كما هو معلوم في الشريعة الإسلامية.
6- ï´؟ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ï´¾ [النساء: 97].
ورَدَ تقريرُ حال هؤلاء الظالمين بصيغة الماضي: ï´؟ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ï´¾، ï´؟ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا ï´¾، ï´؟قَالُوا أَلَمْ تَكُنْï´¾، ولا شك أن هذه ليست حال الظالم الذي قَضَى سابقًا، بل هي حال الظالم في الماضي والحاضر والمُستقبَل، وصيغة الماضي في هذا الموضِع لا تدلُّ على الزمن الفائت وحسب، بل تشمَل الأزمنة كلَّها، ولكن إبراز الحالة من خلال الفعل الماضي راجعٌ - كما هو شأن التعبير القرآني في مواضع شتى - إلى أن الماضي يقينٌ لا يَشكُّ الإنسان فيما حصل له فيه، والآية الكريمة تُريد أن تستحضر الصورة بهذا اليقين الحيويِّ إلى ذهن المُستمِع؛ لعله يتَّعظ أو يَصحو.
7- ï´؟ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ï´¾ [النساء: 142]، والخَدْعُ هو أن يُظهر المرء خلاف ما يُبطن، والفعل الثلاثي منه هو خَدَع، بمعنى أضلَّ وغشَّ، وأما رباعيُّه "خادَعَ"، فهو على وزن فاعَلَ، وهذا الوزن يدلُّ على المشاركة؛ مثل: قاتلَ، وضاربَ، ولاكمَ، وساومَ، وقد يدلُّ على وقوع الفعل مِن واحد مثل: عاقب، وعالج، وجاز استِعمال هذه الصيغة الدالة على المشاركة للواحد؛ لكثرة ورودِها في كلام العرب، والعرب تقول: خادعتُ فلانًا، إذا كنتَ تروم خدْعَه، وعلى هذا يوجه قوله تعالى: ï´؟ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ï´¾، معناه إنهم يُقدِّرون في أنفسهم أنهم يَخدعون الله، والله هو الخادع لهم؛ أي المُجازي لهم جزاء خداعِهم؛ (لسان العرب مادة: خدع)، وأما المُخادَعة بمعنى المشاركة في الخدع، فمُحال النسبة إلى الله - تعالى - ولكن إسناده إليه - سبحانه - يُحمَل على طلب التشاكُل، وللعرب أمثلة على ذلك؛ كقول عمرو بن كلثوم:
ألاَ لا يَجْهَلَنْ أحدٌ علينا
فنجْهَلَ فوق جَهلِ الجاهِلينا
ووردَت المشاكلة هذه في مواضع من القرآن الكريم؛ كقوله سبحانه: ï´؟ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ï´¾ [البقرة: 194]، والثاني قصاص ليس بعدوان (لسان العرب مادة: خدع).
وقد ورَد أن الخادع هو الفاسد من الطعام وغيره، وعلى هذا فإن تأويل الآية هو أنهم "يُفسِدون ما يُظهرون من الإيمان بما يُضمِرون من الكفر؛ كما أفسد الله نِعَمهم بأن أصدرهم إلى عذاب النار" (نفسه).
3- ï´؟ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ ï´¾ [النساء: 170، 171].
ï´؟ فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ ï´¾، وï´؟ خيرًا ï´¾ منصوب على اعتبار أنه صفة للمفعول المُطلَق المَحذوف، وتقديره: آمنوا إيمانًا خيرًا لكم، وأما في ï´؟ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ ï´¾ فإن خيرًا منصوب عند سيبويه بإضمار فعل؛ أي انتهوا وائْتوا خيرًا لكم؛ لأنه إذ نهاهم عن الشرك، فقد أمرهم بما هو خير، وإنك إذا قلتَ: ائتِ، فإنك تخرج المدعوَّ من أمر وتدخلُه في آخَر، ومعنى الآية والحال هذه: انتهوا مما أنتم فيه من شركٍ، وائتوا خيرًا لكم، وقدَّر أبو عبيدة فعلاً ناقصًا مُضمِرًا؛ أي: انتهوا يكنْ خيرًا لكم، ولكن القرطبي نقَل عن محمد بن يزيد تخطئة هذا التأويل؛ "لأنه يُضمِر الشرط وجوابه، وهذا لا يوجد في كلام العرب"؛ (تفسير القرطبي 6: 28).
إن الآية الأولى خطاب للناس جميعًا، ودعوة لهم ليُؤمنوا بما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ï´؟ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ ï´¾، وأما الآية الثانية، فهي خاصة بالنَّصارى مِن أهل الكتاب، ولعلَّ تخصيصهم بالذكر هنا عائدٌ إلى أن الآيات الكريمة السابقة تَدور على الكافِرين، والكافرون كانوا عبَدةَ أوثان، فدعاهم إلى الإيمان بالحق الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وأنهم إن فعلوا نجوا، وأما النصارى، فقد كانوا كالكافرين في البُعد عن عبادة الله - تعالى - ولكن كفرهم مِن نوع مختلف، فهم يعبدون إنسانًا، وقد دعاهم الباري - عز وجل - إلى الإيمان ï´؟ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ï´¾، وذكر الرسل بصيغة الجمع على خلاف دعوة الكافرين الآخَرين الذين كان ذكْر الرسول - عليه الصلاة والسلام - لهم بصيغة الإفراد، والمَظنون أن النصارى كانوا يؤمنون بالأنبياء السابقين على عيسى - عليه السلام - وكفَروا برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وحده، فما المَغزى إذًا بدعوتهم إلى الإيمان برسل الله بصيغة الجَمع وليس بصيغة المُفرَد كما فعل مع الكافرين الآخَرين للإشارة إلى خاتمهم - عليه الصلاة والسلام؟
إن السبب عائد إلى أن معظم النصارى يَعتقدون في عيسى - عليه السلام - الألوهيَّة لا النبوة، وإن معتقدهم هذا قد هدَمَ إيمانَهم بالرسل السابقين، وجمَعوا إلى ذلك عدم تصديق رسول الإسلام - صلى الله عليه وآله وسلم - وجاءت دعوتهم إلى الإيمان بالرسل بصيغة الجمع في قوله - سبحانه -: ï´؟ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ï´¾؛ لكي يؤمنوا بعيسى - عليه السلام - نبيًّا لا إلهًا؛ لكي يقود هذا الإيمان إلى تصحيح إيمانهم بالرسل السابقين، ولا يكون تصحيحهم لعقيدتهم كافيًا وسيَبقون خارج الإيمان بجميع الرسل - عليهم الصلاة والسلام - ما داموا يَجحدون رسالة النبي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ولكي يَصيروا على الجادة والصواب لا بدَّ لهم أن يدخلوا في زمرة ما دخل فيه المسلمون، وهو الإيمان بالله وبرسله جميعًا وبضمنِهم خاتمهم - عليهم الصلاة والسلام - وأما إذا أبوا الاستجابة، فإن شأنهم سيكون كشأن أولئك الكافرين الذين قال الله - تعالى - فيهم في الآية السابقة: ï´؟ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا
8- ï´؟ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ï´¾ [النساء: 157 - 159].
في قوله سبحانه: ï´؟ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ï´¾ إلماحات:
أ- إنَّ ï´؟ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ ï´¾ تُفيد الاستغراق ولا استثناء فيها، والمعنى أن أهل الكتاب قاطبة سيؤمنون به حتمًا، وقد أكِّد الخبر بنون التوكيد الثقيلة في ï´؟ لَيُؤْمِنَنَّ ï´¾، ويُشْبِه هذا الاستغراقَ والعموم قولُه - سبحانه - في سورة مريم: ï´؟ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ï´¾ [مريم: 71].
ب- تفيد الهاء في ï´؟ بِهِ ï´¾ وï´؟ مَوْتِهِ ï´¾ معانيَ، منها:
1- أن الهاء في ï´؟ بِهِ ï´¾ تُشير إلى الرفْع أو إلى عيسى - عليه السلام - وفي ï´؟ مَوْتِهِ ï´¾ إلى أفراد أهل الكتاب، ويكون المعنى: إن كل واحد من أهل الكتاب سيؤمن في لحظة وفاته أن عيسى - عليه السلام - لم يُقتَل بل رفعه الله إليه، ولكنه إيمانٌ حاصل في الوقت الذي لا ينفع النفسَ إيمانُها.
2- أن الهاء في الموضعَين تُشيران إلى عيسى - عليه السلام - أي: إن أهل الكتاب جميعًا سيؤمنون بعيسى - عليه السلام - قبل أن يتوفاه الله - تعالى - وهذا يعني أن الإيمان سيكون في آخِر الزمان بعد نزول عيسى - عليه السلام - إلى الأرض مرة ثانية، ولأنه في ذلك الوقت يكون مُتبعًا لنبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - فإن أهل الكتاب سيكونون تبعًا له على ملة الإسلام.
9- ï´؟ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ï´¾ [النساء: 160].
إن للذنب عقوبة عاجِلة وعقوبة آجِلة إن لم يتدارَكْه المرء بالتوبة، فالذين هادوا كانوا ينعمون بطيبات أحلَّها الله لهم، ولكنها صارت محرَّمة عليهم بذنوبهم، لا من حيث إنها محرَّمة من أصل الوضع، وشبيهٌ بهذا ما رُوي عن ثوبان أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: ((إن الرجل ليُحرَم الرِّزقَ بالذنب يُصيبه، ولا يردُّ القدرَ إلا الدعاءُ، ولا يزيد في العمر إلا البِرُّ))؛ "الترغيب والترهيب"؛ للمنذري (3: 294).
10- ï´؟ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ï´¾ [النساء: 176].
وتَلتقي هذه الآية التي خُتِمت بها السورةُ الشريفة بالآية الأولى التي يُفهَمُ منها أنها دعوة للناس إلى الإيمان وإلى اتِّباع الأحكام التي وضعَها الباري - عز وجل - لعباده، وتُقرِّر هذه الآية الأخيرة أن الله - تعالى - بيَّن لعباده الأحكام لكي لا يَضلوا، فهذه السورة المباركة تبدأ وتَنتهي ببيان الطريق والمُعامَلة والأحكام، ولا يتحقَّق للإنسان سبُلُ النجاة إلا إذا أخذ نفسه بما أراده المولى - عز وجل.
أ. د. عباس توفيق |
|
|
|