نحن أمام سورة عظيمة، على الرغم من كونها قصيرة، وتدور تلك السورة حول الإنسان وما رُكِّب فيه من صفات سيئة، ثم تضع أيديَنا على العلاج الناجع لتلك الصفات.
بدأَت السورة الكريمة بالقسَم، والله عز وجل يُقسِم بما شاء مِن خلقه، أمَّا البشر فلا يحلُّ لهم القسَم بغير الله تعالى، ولا شكَّ أن القسَم بالشيء يدل على تعظيمه ورفعة مكانته، وإذا أقسم الله عز وجل بشيءٍ فهذا يدل على أن هذا الشيء ذو شأن.
وقد وجدنا القسَم في افتتاح كثير من السور، وفي هذه السورة نجد أن القسم ليس بشيء مفرَد أو بعدَّة أشياء مستقلَّة، وإنما نجد القسم يرسم لنا صورة كاملة، ويصف لنا مشهدًا مهيبًا، هذا المشهد قد اعتاد عليه العرب؛ لكثرة تكرُّره في بيئتهم، ألا وهو مشهد الغَزو والإغارة، فيُقسم تعالى بالخيل سريعةِ العَدْو حين تخرج في آخر الليل لتُصَبِّح العدوَّ في أول النهار، ومع شدة عَدوِها تَسمع لصدورها صوتًا، وتضرب الأرضَ بسنابكها فيتطاير الشرر، كما تشتعل النار في عود الثِّقاب (الكبريت)، حتى إذا طلع الفجر باغتَت العدوَّ بالإغارة.
وعندها تَزيد سرعتُها ويشتد عدْوُها فتثير الغبارَ بساحة المعركة، وتَمضي قُدمًا حتى تخترق الصفوف، وتتوسَّط جموع الأعداء.
وهكذا تنتهي تلك الصورة، الموحيةُ بالبأس والشدة، والمظلَّلة بالخوف والهلع، المصوِّرة للصراع؛ ذلك الصراع الذي يقع بين البشر، والذي يرجع إلى ما رُكِّب فيهم من حبٍّ للمال والشرف والسيادة.
فهذا هو القسَم، وتلك إيحاءاته، فما المُقسَم عليه؟ المقسم عليه ثلاثة أمور:
الأول: ï´؟ إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ï´¾ [العاديات: 6]، والكَنود هو الكفورُ الذي يَنسى الخير ويَذكر الشرَّ، فإذا جاءَته النعمة لم يَشكر، وإذا نزلَت به البلية لم يصبر، وهو طبعٌ يدل على قسوة القلب، تلك القسوة التي نراها في مشهد الغزوِ والإغارة الذي صوَّره لنا القسَم.
وقد جاء عن بعض المفسرين أن مشهَد الإغارة الذي بدأت به السورة هو مشهد الجهاد في سبيل الله، والذي يظهر لي أنه يصوِّر مشهد الإغارة بشكل عام بغض النظر عن المغير والمغار عليه؛ وذلك لأن السورة مكِّية، ولم يكن الجهاد قد شُرع في ذلك الوقت؛ ولذلك فإني أرى أن القسم إنما يصور مشهدًا مألوفًا عند العرب قد اعتادوا عليه وهو مشهد الإغارة، وهناك ارتباطٌ وثيقٌ بين مشهد الخيل المغيرات، وبين ما يَركب في الإنسان من جحودٍ وحب للمال.
القِسم الثاني من السورة يتمثل في المقسَم عليه، وأول شيء جحودُ الإنسان وتذكُّره الشرَّ ونسيانه الخير، وهو مقرٌّ معترف بذلك؛ ï´؟ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ï´¾ [العاديات: 7]، ولكن هذا الاعتراف قد يَقوى أحيانًا ويظهر، وترى الإنسان حينئذٍ يندم على ما فرط، وأحيانًا يختفي ذلك الصوت في غمار الحياة، فهو النار التي تَخرج من احتكاك سنابك الخيل العاديات بالأرض من أثر العَدْو، فهو ضوء خافت يبدو أحيانًا ويختفي، ويظهر في الظلام أوضحَ من ظهوره في النهار. والإنسان بطبعِه محبٌّ للخير شديدُ التعلق به، والخير هنا المال.
أما عن القسم الأخير من السورة فهو يعطينا العلاجَ لما بالنفس البشرية من شر؛ وذلك إنما يكون بتذكر الآخرة والحساب، وأن كل إنسان سيُجزى بما كان يعمل، فعندها يَنظر الإنسان إلى الآخرة يسعى للنَّجاة فيها ويضعُف تعلقه بالدنيا؛ ï´؟ أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ï´¾ [العاديات: 9]؛ ألا يدري الإنسان كيف يكون الأمرُ حين يُبعث ما في القبور، ويخرج الناس إلى ساحة الحساب؟! ï´؟ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ï´¾ [العاديات: 10]، فيظهر كل ما تحبسه الصدور وتكنُّه الضمائر، يبدو ذلك عيانًا بيانًا.
وفي ذلك اليوم يحاسب الله تعالى عباده وهو الخبير بهم؛ أي: الذي يعلم دقائق أحوالهم، وما خَفي من أسرارهم، ويَجزيهم بها.
وقد خصَّ يوم القيامة بذلك مع أنه خبير بهم في كل وقت؛ لأنه اليوم الذي سيَجزيهم فيه بناء على أعمالهم، فلا خلاص للعبد يومئذٍ إلا إذا عمل لهذا اليوم حسابًا، واستعد له بالتمسك بالقرآن والسنة، والسير على الصراط المستقيم. |
|
|
|