في أحد وقبل بدأ المعركة، عبَّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشه وجهزه جيدًا لملاقاة جيش المشركين؛ فعيَّن الرماة على جبل عينين، ووضع المقاتلين المهرة في النسق الأول من الجيش، وحدَّد الضربة الرئيسة باتجاه لواء قريش.
فلمَّا سقط اللواء على الأرض تفرَّقت قريش وانهزمت، ولكن عندما تحرَّك خالد بن الوليد -قائد فرسان المشركين حينذاك- بجنوده حركته المفاجئة من خلف جبل أحد، بعد أن خالف الرماة تعليمات الرسول المشدَّدة وتركوا مواقعهم من أجل الغنائم وقُتِل من بقي من الرماة، دارت الدائرة على المسلمين، فأُصيبوا بخسائر كبيرة وعادوا إلى المدينة يحملون جرحاهم وآثار نكسةٍ خطرة أصابت القلوب والنفوس.
من الهزيمة إلى النصر
ولمعالجة ذلك قرر رسول الله صلى الله عليه وسلم -بعبقريته المشهودة في القيادة- وفي ليلة الهزيمة جمع الجيش كله وقرَّر صلى الله عليه وسلم التحرُّك إلى حمراء الأسد في إثر قريشٍ لمطاردتها وقتالها، وفي الصباح خرج معه كلُّ من بقي على قيد الحياة من يوم معركة أحد، حتى الجرحى والمصابون تحاملوا على أنفسهم وساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت قريش تُهدِّد وتتوعَّد على لسان أبي سفيان بالعودة إلى المدينة لاستئصال شأفة المسلمين.
وفي منطقة حمراء الأسد جاءه معبد الخزاعي وهو لا زال مشركًا، فقال: "وددتُ لو أنَّ الله عافاك وأعانك عليهم"، فأوصاه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا ثم ارتحل.
حتى لقي أبا سفيان، فقال له: ما وراءك يا معبد؟ إنَّنا عزمنا على العودة إلى المدينة لنستأصل شأفة المسلمين ومحمد، فقال معبد: إنِّي أنهاك عن ذلك، فقد خرج محمد بجيشٍ لم أرَ مثله قط، وهم يحنقون حنقًا عظيمًا، وقد انضمَّ إليه من تخلَّف عنه يوم أحد.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بإيقاد عشرات النيران ليلًا لتوهُّم العرب والقبائل المجاورة وتضليلهم حول حجم الجيش، حتى يتمكَّن المسلمون من معالجة جراحات الهزيمة والعودة رافعين رءوسهم إلى المدينة والاستعداد من جديد للقاء المشركين.
وبعدما أخبره معبد بذلك، قال أبو سفيان: ويحك، ما تقول؟ قال: والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل، أو حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة. فقال أبو سفيان: والله لقد أجمعنا الكَرَّة عليهم لنستأصلهم. قال: فلا تفعل، فإنِّي ناصح.
وحينئذٍ انهارت عزائم الجيش المكِّي وأخذه الفزع والرعب، فلم يرَ العافية إلَّا في مواصلة الانسحاب والرجوع إلى مكة، بيد أنَّ أبا سفيان قام بحرب أعصابٍ دعائيَّة ضدَّ الجيش الإسلامي، لعلَّه ينجح في كفِّ هذا الجيش عن مواصلة المطاردة، وطبعًا فهو ينجح في تجنُّب لقائه؛ فقد مرَّ به ركبٌ من عبد القيس يُريد المدينة، فقال: هل أنتم مبلغون عني محمدًا رسالة، وأوقر لكم راحلتكم هذه زبيبًا بعكاظ إذا أتيتم إلى مكة؟ قالوا: نعم. قال: فأبلغوا محمدًا أنَّا قد أجمعنا الكرة لنستأصله ونستأصل أصحابه.
فمرَّ الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم بحمراء الأسد، فأخبرهم بالذي قال له أبو سفيان، وقالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ}؛ أي زاد المسلمين قولهم ذلك: {إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173-174].
الانتصار دون قتال
ولقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد بعد مقدمه يوم الأحد الاثنين والثلاثاء والأربعاء (9، 10، 11) شوال سنة 3 هـ ثم رجع إلى المدينة منتصرًا بعد أن انسحب جيش قريش خائفًا مدحورًا بعد أن كانوا منتصرين بل أنهم كانوا متوجهين إلى المدينة لاستئصال شأفة المسلمين -في ظنهم-، ولكن بفضل الله ثم عبقرية النبي صلى الله عليه وسلم القيادية وثباته الانفعالي الفذ وقدرته على التدبير واتخاذ القرارات في أشد المواقف وما أشد من هزيمة أحد.
وعاد النبي صلى الله عليه وسلم وقد استطاع أن يُحقِّق أهدافه التي رسمها دون خسائر تُذكر، وصدق الله القائل: {فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:174]، فعادوا من "حمراء الأسد" بالثواب الجزيل والمنزلة العالية، وقد ازدادوا إيمانًا ويقينًا، وأذلُّوا أعداء الله، وفازوا بالسلامة من القتل والقتال، واتَّبعوا رضوان الله بطاعتهم له ولرسوله، والله ذو فضل عظيم عليهم وعلى غيرهم. |
|
|
|