قال جل وعلا: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190]. إنها دعوةٌ إلى التدبر في الكون وتأمّل مدى دقته وتناسق نواصيه وأجزائه.
عباد الله، إن الخالق عز وجل بمنه وكرمه وفضله قد أظهر لنا آياته في كتاب منظور نراه ونحسّ به، وكتاب نقرؤه ونرتّله ألا وهو القرآن الكريم بآياته وعظاتة، الذي يَعْمد إلى تنبيه الحواسّ والمشاعر وفتح العيون والقلوب إلى ما في هذا الكون العظيم من مشاهد وآيات، تلك التي أفقدتها الأُلفة غرابتها، وأزالت من النفوس عِبرتها، قال عز وجل: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ.... ﴾ [ص: 29] وقال: ﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ... ﴾ [يونس: 101].
هاهو القرآن الكريم يَعرض هذه الآيات بأسلوب أخّاذ ليُعيد طراوتها في الأذهان، فكأنها تُرى لأول مرة، يلفتُ النظر على هذه الأرض الفسيحة، وقد سُقيت ورويت بماء الحياة، فاكتظَّت أعاليها بالنعم الوافرة، من أنهار جارية، وأشجار مثمرة، وزروع نضرة، وجبال شامخة راسية، وبحار واسعة مترامية، قال جل وعلا: ﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ﴾ [النبأ: 14 - 16]. وقال تعالى: ﴿ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا... ﴾ [النازعات: 30، 31]، وقال جل وعلا: ﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا... ﴾ [عبس: 24، 25]، وقال جل وعلا: ﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ... ﴾ [الغاشية: 17].
إن التأمّل في مطلع الشمس ومغيبها، التأمّل في الظلّ الممدود ينقص بلطف ويزيد، التأمل في العين الوافرة الفوّارة والنبع الرويّ، التأمّل في النبتة النامية والبرعم الناعم والزهرة المتفتّحة والحصيد الهشيم، التأمّل في الطائر السابح في الفضاء والسمك السابح في الماء والدود السارب والنمل الدائب، التأمل في صبح أو مساء، في سكون الليل أو في حركة النهار، إن التأمل في كل ذلك يحرّك القلبَ لهذا الخلق العجيب، وُيشعر العبدَ بعظمة الخالق تبارك وتعالى، قال جل وعلا: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ... ﴾ [الشورى: 29]، وقال تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا... ﴾ [الفرقان: 61].
عباد الله، هذه المجرات المنطلقة، والكواكب التي تزحم الفضاء وتخترق عُباب السماء، معلّقة لا تسقط، سائرة لا تقف، لا تزيغ ولا تصطدم، ﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ... ﴾ [يس: 38، 39].
من الذي سيّر أفلاكها؟! ومن الذي نظّم مَسارها وأشرف على مدارها؟! من أمسك أجرامها ودبّر أمرها؟! ﴿ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ [الأنعام: 91]. ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا ﴾ [فاطر: 41].
عباد الله، إن الله تبارك وتعالى خلق كلَّ شيء فقدَّره تقديرًا، هذا وضعُ الشمس أمام الأرض مثلاً، تم على مسافة معينة، لو نقصت فازداد قرْبُها من الأرض لأحرقتها، ولو بعُدَت المسافة لعمّ الجليد والصقيع وجه الأرض وهلك الزرع والضرع، من الذي أقامها في مكانها ذاك وقدّر بُعدها لننعم بحرارة مناسبة تستمر معها الحياة والأحياء؟! ﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [النمل: 88].
عباد الله، إن آيات الله في الكون لا تتجلى على حقيقتها ولا تؤدّي مفعولها إلا للقلوب الذاكرة الحَيّة المؤمنة، تلك التي تنظر في الكون بعين التأمل والتدبّر، تلك التي تُعمِل بصائرها وأبصارها وأسماعها وعقولها، ولا تقف عند حدود النظر المشهود، لتنتفع بآيات الله في الكون، ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [آل عمران: 191].
أما الكفرة والملحدون، فهم عُميُ البصائر غُلف القلوب، إنهم لا يتبصّرون الآيات وهم يُبصرونها، ولا يَفقهون حِكمتها وهم يتقلّبون فيها، فأنّى لهم أن ينتفعوا بها؟! ﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾ [الروم: 7]، ﴿ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ﴾ [الحجر: 14، 15].
عباد الله، إن بعضَ طرق البحث العلمي لن تؤتي ثمارها في معزل عن الإيمان بقطع الصلة بين الخلق والخالق، فهذه الحضارة الحديثة، وإن شعّ بريقها فظهرت أنها تكشف الآيات العظيمة، ثم تقف حيث يجب أن تنطلق، تظهرُ الأسباب وتنسى ربّ الأسباب سبحانه، وكأن هذه الأسباب التي يُفسّرون بها حصول الكسوف والخسوف والزلازل والبراكين ونزول الأمطار وغيرها كأن هذه الأسباب هي الفاعل الحقيقي، وما عداها وهمٌ، وهذا ضلال بعيد فالفاعل على وجه الحقيقة هو الله الفعّال لما يريد.
أما المنهج الإيماني فإنه لا ينقص شيئًا من ثمار البحث العلمي، لكنه يزيد عليه بربط هذه الحقائق بخالقها ومُوجدِها ومدبّرها ومصرّفها، ليقدر العباد ربّهم حقَّ قدره، وليعلموا أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا، فلا يستحقّ العبادة إلا هو، ولا يُتوجّه بخوف أو رجاء إلا إليه، ولا يُخشى إلا هو، ولا يذلّ إلا له، ولا يُطمَع إلا في رحمته.
عباد الله، ماذا لو اختلّ نظام هذا الكون قيدَ شعرة؟! إنه سينهار بكل ما فيه ومَن فيه. ماذا لو تصادمت أفلاكه؟! ماذا لو تناثر ما في الفضاء من أجرامه؟! ماذا لو حُجِبت عنه عناية الله طرْفةَ عين أو أقل من ذلك أو أكثر؟! إننا سنهلك ويهلك كل مَن معنا، ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... ﴾ [الزمر: 62، 63].
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد فيا عباد الله؛ إن الناظر في الكون وآفاقه يَشعُرُ بجلال الله وعظمته، الكون كلّه عاليه ودانيه، صامتة وناطقُه، أحياؤه وجماداته، كله خاضع لأمر الله، منقاد لتدبيره، شاهد بوحدانيته وعظمته، ناطق بآيات علمه وحكمته، دائم التسبيح بحمده، ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ.... ﴾ [الإسراء: 44].
أخرج البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك النبي حتى بدت نواجذه تصديقًا لقول الحبر، ثم قرأ: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ﴾ [الزمر: 67].
عباد الله، من عصى الله وخالف أمره لم يَقدُر الله حق قدره، من نفى عن الله صفاته أو شبهه بخلقه ما قدر الله حق قدره، من دعا غير الله وطلب منه الشفاعة أو تفريج الكروب ما قدر الله حق قدره، من أطاع بشرًا في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله ما قدر الله حق قدره، من هجر كلام الله فلم يقرأه ولم يتدبره ولم يعمل به ما قدر الله حق قدره، من أحدث حدثًا في دين الله ما قدر الله حق قدره، من ظلم الناس في أموالهم أو أعراضهم ما قدر الله حق قدره، من أكل أموال الناس بالباطل ما قدر الله حق قدره، من لم يحافظ على الصلوات والعبادات وسائر الطاعات ما قدر الله حق قدره.
فنسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن ينتفع بآياته في كونه وكتابه، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه...
اللهم صل على سيدنا محمد... |
|
|
|