الحمد لله رب العالمين، مالك يوم الدين، جامع الناس ليومٍ لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)ï´¾[الأحزاب:70-71].
عباد الله:
نقف في هذه الخطبة وقفاتٍ يسيرة مع سورةٍ عظيمة من كتاب ربنا -عَزَّ وَجَل- نقرأها كثيرًا، ونحفظها، ولكن قلَّ من يقف عند معانيها العظيمة متأملًا ومتدبرًا.
? إنها سورة (القارعة) هذه السورة العظيمة التي تضمنت معانٍ عظيمةٍ وكبيرة يقول فيها ربنا -عَزَّ وَجَل-: ï´؟الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2)ï´¾[القارعة:1-2].
وï´؟الْقَارِعَةُï´¾ اسم فاعل من (قَرَعَ): والمراد التي تقرع القلوب وتُفزعها وذلك عند النفخ في السور، كما قال الله تعالى: ï´؟وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَï´¾[النمل:87].
فهي تُقرِع القلوب بعد قرع الأسماع، هذه القارعة قارعةٌ عظيمةٌ لا نظير لها قبل ذلك، وهي من أسماء يوم القيامة، ويوم القيامة له عدة أسماء: فيسمى بالغاشية، وبالحاقة، وبأسماء كثيرة، ذكر ربنا -عَزَّ وَجَل- في كتابه الكريم جملةً منها.
ï´؟الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2)ï´¾[القارعة:1-2]
ï´؟مَاï´¾ استفهامٌ بمعنى التعظيم والتفخيم؛ أي ما هذه القارعة التي ينوّه عنها؟
? ثم قال -عَزَّ وَجَل-: ï´؟وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُï´¾[القارعة:3] وهذا زيادة في التفخيم والتعظيم والتهويل؛ أي أي شيء أعلمك عن هذا القارعة ما أعظمها! وما أشدها!
ثم بيَّن متى تكون، قال: ï´؟يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِï´¾[القارعة:4] أي أنها تكون في ذلك الوقت ï´؟يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِï´¾[القارعة:4] حين يخرجون من قبورهم.
قال العلماء: (يكونون كالفراش المبثوث، والفراش هو هذه الطيور الصغيرة التي تتزاحم عند وجود النار في الليل، وهي ضعيفةٌ وتكاد تمشي بدون هدى وتتراكم، وربما لطيشها تقع في النار وهي لا تدري، فهذه الجموع الغفيرة تشبه الفراش في ضعفه وحيرته وتراكمه، وسيره إلى غير هدى).
وقوله: ï´؟الْمَبْثُوثِï´¾[القارعة:4]؛ أي المنتشر، فهو كقول الله تعالى: ï´؟يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِï´¾[القمر:7]؛ أي من القبور ï´؟كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌï´¾[القمر:7].
لو تصورت هذا المشهد العظيم حين يخرج الناس من قبورهم بهذه الصفة لوجدت أنه مشهدٌ عظيمٌ جدًّا لا نظير له، هذا العالم منذ أن خلق الله آدم إلى قيام الساعة بنو آدم أعدادٌ كثيرةٌ جدًّا، إذا كان عدد سكان الأرض الأحياء الآن أكثر من سبعة مليارات، فكيف بأعدادهم منذ أن خلق الله آدم إلى قيام الساعة؟ خلائق عظيمة، ومع ذلك يخرجون خروج رجلٍ واحدٍ في وقتٍ واحد، يخرجون من هذه القبور المبعثرة في مشارق الأرض ومغاربها، يخرجون منها كل هؤلاء الأمم العظيمة يخرجون مرة واحدة ï´؟كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِï´¾[القارعة:4] يصولون ويجولون في هذه الأرض، ومع ذلك ليس فقط هم بنو آدم، بل ومعهم الجن، ومعهم الطير، ومعهم الوحوش، وتُنزّل الملائكة تنزيلًا، كل هذه الخلائق تكون على وجه هذه الأرض، تُحشَر على هذه الأرض التي تُمَد مدًّا؛ أي بدل أن كانت كروية، تصبح ممدودة، كما قال الله تعالى: ï´؟وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ï´¾[الانشقاق:3-4].
في هذا المشهد العظيم تصبح هذه الخلائق ï´؟كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِï´¾[القارعة:4] كالفراش المنتشر المتفرق، يا له من مشهدٍ عظيمٍ يقرع القلوب!
وأما الجبال، وهي تلك الجبال العظيمة الراسية الصلبة، فتكون ï´؟وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِï´¾[القارعة:5].
و(الِعهْن): هو الصوف.
وï´؟الْمَنفُوشِï´¾؛ أي الـمُبعثر؛ هذه الجبال بعد أن كانت صلبةً قويةً راسخةً تكون مثل العهن، تكون مثل الصوف المبعثر سواء نفشته بيدك أو بالمنداف، فإنه يكون خفيفًا يتطاير مع أدنى ريح.
وقد قال الله تعالى في آياتٍ أخرى عن الجبال: ï´؟وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6)ï´¾ [الواقعة: 5- 6]، وقال هنا: ï´؟وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِï´¾[القارعة:5].
وإذا كانت الجبال تصير من قرعة يوم القيامة كالصوف المنفوش، فكيف بحال الإنسان عند سماعها؟!
عباد الله:
إن هذا اليوم العظيم يوم القيامة قد عُني القرآن الكريم بذكره كثيرًا، وتكررت أوصافه، هذا اليوم هو اليوم الذي نحن صائرون إليه لا محالة، ï´؟قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)ï´¾ [الواقعة:49-50].
ï´؟قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَï´¾[الجاثية:26] ذلك اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة يكون فيه من الأهوال شيء عظيم جدًّا تشيب منها الولدان، ï´؟فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًاï´¾ [المزمل:17].
ويقول -عَزَّ وَجَل- في بيان عظيم أهوال ذلك اليوم: ï´؟يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)ï´¾[الحج:1-2].
زلزلة الساعة شيءٌ عظيم، وخطبٌ جليل، وطارق مفزع، وحادثٌ هائل، وكائنٌ عجيب، ترى الناس في ذلك الموقف سكارى؛ أي لشدة الأمر الذي صاروا فيه قد دُهِشَت عقولهم، وغابت أذهانهم، فمن رآهم حسب أنهم سكارى، ولكنهم في حقيقة الأمر ليسوا بسكارى، ولكن عذاب الله شديد، يرى الإنسان أحب الناس إليه في الدنيا يرى أمه وأباه، وأخته وأخاه، يرى زوجته وأولاده، ومع ذلك يفر منهم فرارًا.
ï´؟يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)ï´¾[عبس:34-36] لماذا؟
ï´؟لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِï´¾[عبس:37].
«يُحْشَر النَّاس حُفَاة عُرَاةً»، تقول أم المؤمنين عائشة -رَضِيَ الله عَنْها-: قُلْت: يَا رَسُول الله، الرِّجَال وَالنِّسَاء يَنْظُر بَعْضَهُم إِلَى بَعْضٍ؟ قَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام-: «يَا عَائِشَة الأَمْر أَشَد مِنْ أَنْ يَهِمِّهم ذَلِك». أمرٌ عظيمٌ مفزع لدرجة أن الإنسان يرى والديه، يرى أمه وأباه وأولاده وزوجته وإخوانه وأخواته ويفر منهم فرارًا، فيا له من أمرٍ مفزعٍ عظيم.
ثم قال ربنا -عَزَّ وَجَل- في هذه السورة العظيمة: ï´؟فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)ï´¾ [القارعة:6 -11].
فقسم الله تعالى الناس إلى قسمين:
w القسم الأول: ï´؟مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُï´¾، وهو الذي رجحت حسناته على سيئاته
w والقسم الثاني: ï´؟مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُï´¾ وهو الذي رجحت سيئاته على حسناته، أو ليس له حسناتٌ أصلًا كالكافر.
ï´؟فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7)ï´¾ [القارعة:6-7] العيشة مأخوذة من العيش وهو الحياة؛ أي أنه في حياةٍ طيبةٍ راضية.
وقوله: ï´؟رَاضِيَةٍï´¾[القارعة:7]؛ أي عيشة طيبة ليس فيها نكدٌ ولا صخبٌ، ولا نصبٌ، كاملة النعيم من كل وجه، والمراد به الجنة، أنه يكون في الجنة.
هذا العيش في الجنة، ï´؟لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَï´¾[الحجر: 48] لا يحزنون فيها ولا يخافون، في أنعم عيشٍ، وأطيب بالٍ، وأسر حالٍ، فهي عيشةٌ راضية، لا خوف فيها، ولا مرض، ولا هرم، ولا حزن، ولا تعب، ولا موت، ملذاتها كاملة، ï´؟فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَï´¾[الزخرف:71]. هؤلاء هم الذين رجحت كفة حسناتهم على سيئاتهم.
ï´؟وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُï´¾[القارعة:8]:
وهو إما أنه الكافر الذي ليس له أي حسنة؛ لأن حسنات الكافر يجازى بها في الدنيا، ولا تنفعه في الآخرة، كما قال سبحانه: ï´؟وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًاï´¾[الفرقان:23].
أو أنه مسلم لكنه مسرف على نفسه، فسيئاته أكثر من حسناته.
ï´؟فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌï´¾[القارعة:9] الأم معناها المأوى؛ أي مأواه الهاوية، والهاوية من أسماء النار؛ أي أن مآله إلى النار, وقيل إن المراد بالأم هنا: أم الدماغ؛ أي أنه يلقى في النار على أم رأسه.
وإذا كانت الآية تحتمل معنيين لا تنافي بينهما، فتُحمل الآية على المعنيين جميعًا كما قال أهل التفسير، فيقال: (يُرمى في النار على أم رأسه، وليس له مأوًى ومقصد إلا النار).
ï´؟وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْï´¾[القارعة:10] هذا من باب التفخيم والتعظيم لهذه الهاوية، أتدري ما هي هذه الهاوية التي يهوي فيها؟ إنها شيءٌ عظيم، إنها ï´؟نَارٌ حَامِيَةٌï´¾[القارعة:11] في غاية ما تكون من الحرارة.
يقول النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إِنَّهَا فُضِّلَت عَلَى نَارِ الدُّنْيَا بِتِسْعَة وَسِتِّين جُزْءًا»، تأمل نار الدنيا على شدة حرها فإن نار جهنم قد فُضِّلت وضُعِّفَت عليها تسعًا وستين مرة، فهي أحرُّ من نار الدنيا تسعًا وستين مرة، هل يستطيع أحدٌ من البشر أن يضع يده على نار الدنيا دقيقةً واحدة؟ فكيف بهذه النار التي ضُعِّفت على نار الدنيا تسعًا وستين مرة؟!
وفي هذه الآية التخويف والتحذير من هذا اليوم، وأن الناس لا يخرجون عن حالين:
w إما من ترجح حسناته على سيئاته.
w أو ترجح سيئاته على حسناته.
ï´؟فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُï´¾[القارعة:6] فمآله للجنة ï´؟فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍï´¾[القارعة:7].
ï´؟وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُï´¾[القارعة:8]؛ أي رجحت سيئاته على حسناته فمآله إلى النار، ï´؟فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)ï´¾[القارعة:9 -11]. |
|
|
|