جمعتني مناسبة عائلية خلال الأسبوع الماضي مع عائلة أحد أقاربي، من الذين أنعم الله عليهم بأن يكونوا من المرابطين على ثغور الوطن عند الحد الجنوبي، وتجاذبت مع الابن الأكبر أطراف الحديث، وسألته عن والده الذي يعمل ضمن قوات حرس الحدود، فطمأنني بأنه بخير، ويزورهم كلما سنحت الفرصة لذلك. سألته عن أحوال إخوته وأخواته فأكد لي أنهم ينعمون بأقصى درجات الرعاية من القيادة الكريمة والمسؤولين كافة.
عقب انتهاء المناسبة دار تفكيري حول أولئك الأبطال الذين اختاروا بملء إرادتهم ومحض اختيارهم أن يفارقوا ديارهم وعائلاتهم؛ ليرابطوا عند الحدود دفاعًا عن أرض الحرمين الشريفين، وردًّا لمؤامرات أعدائها. أدركتُ كم هم أبطال أولئك الذين ارتضوا أن يتركوا وثير الفراش؛ ليناموا على الأرض، ويفترشوا الحصى، ويلتحفوا السماء، وسط الصخور والوحل؛ لننعم نحن بالأمن والأمان، وحتى تظل راية التوحيد عالية خفاقة.
كم هم متميزون هؤلاء النفر الكرام الذين اختار لهم الله سبحانه وتعالى أن يكونوا في تلك البقاع، وكم هو عظيم الأجر والثواب الذي ادخره لهم يوم الحساب، والمكانة العالية التي اختصهم بها، فالنبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- يقول: "عينان لا تمسهما النار يوم القيامة: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله".
هذا الصنيع الجميل أدركت قيادتنا الرشيدة حجمه وحقيقته؛ فبادلت أصحابه عطاء بعطاء، ووفاء بوفاء عندما أعلن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز – حفظه الله – أنه أب لأبناء الشهداء كافة، ويا لها من أبوة حانية رحيمة.. وتأكيد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان – حفظه الله - أن أولى أولوياته هي العناية بأُسر الشهداء، ويا لها من عناية فائقة.
هذه العناية وهذا التكريم تسابقت أجهزة الدولة ومؤسساتها كافة لإنزالهما على أرض الواقع؛ فأبناء الشهداء يجدون في المدارس كل أنواع الاهتمام والرعاية من المعلمين، لدرجة أن إحصاءات وزارة التعليم أكدت ارتفاع مستويات أبناء الشهداء، وتميُّزهم في المجال الأكاديمي نتيجة للجهود التي تبذلها الوزارة لرعايتهم، والاهتمام بهم.
وتبدأ العناية بذوي الشهداء بمجرد إعلان الشهادة؛ إذ يبادر أمراء المناطق أو مَنْ ينوبون عنهم إلى تقديم واجب العزاء، ونقل مواساة القيادة الرشيدة، ثم تفقُّد أحوال عائلة الشهيد، وتسديد ديونه – إن وُجدت – وتوفير السكن اللائق لهم، وتأمين مصدر دخلهم، ومساعدة أبنائهم، ومنحهم الأولوية في التوظيف، والعناية بآبائهم وأقاربهم، إلى غير ذلك من أوجه الرعاية.. كما يتم التركيز على تقديم الدعم النفسي والمادي لعائلات الشهداء بما لا يسمح بحدوث أي تغيير سلبي في حياتهم، وبما يؤدي للحفاظ على مستقبل أبنائهم وعائلاتهم.
هذا العطاء وهذا الوفاء لمن يستحقونهما ليس بمستغرب على قادة وشعب هذه البلاد المباركة التي دأبت منذ توحيدها على رد الجميل لأهله، ونشأ أبناؤها على مكارم الأخلاق وحميد الصفات، يستمدونها من دينهم الإسلامي العظيم، وعمقهم العربي الأصيل.. وهو نهج ثابت، تمارسه الدولة على أعلى مستوياتها.
كل ذلك يستحقه أولئك الأبطال، وستبقى ذاكرة الأمة تستحضر تضحياتهم العظيمة ودورهم التاريخي الذي حتمًا سوف يُسطِّره التاريخ بأحرف من نور، وسيظل ما قدموه من تضحيات وبذل وفداء وسام فخر واعتزاز على صدورهم وصدور أبنائهم وعائلاتهم، بعد أن وهبوا أنفسهم فداء لدينهم ومليكهم ووطنهم.
هؤلاء الأبطال الأشاوس حق لهم أن نفخر بهم، وأن نعتز بما يقدمونه في ميدان الوطنية والفداء.. فالأوطان التي يحميها أبناؤها بحياتهم، ويقدمون لأجلها أغلى ما يملكون، لن تعرف سوى الرفعة والسؤدد والتقدم، ولن يكون مصيرها سوى المزيد من النجاحات، ولاسيما إذا كانت أرض الرسالة الإسلامية ومهبط الوحي وحاضنة الحرمين الشريفين.
لأولئك الكرام أقول: إن الأرض الطاهرة التي أنجبتكم ونشأتم على ترابها تفخر بكم، وتباهي غيرها افتخارًا، بعد أن أكدتم بالأفعال جدارتكم بمهمة حفظ الأمن والاستقرار، وقدمتم للعالم أجمع دروسًا في البسالة والفداء، وتسابقتم في ميادين العطاء والانتماء، ونذرتم أرواحكم فداء لأرض الحرمين؛ حتى تظل راية التوحيد عالية، وينعم ساكنوها بالأمن والأمان. هدفكم الوحيد هو صون تراب الوطن الغالي، والدفاع عن شعب أبيٍّ عظيم، وفيٍّ كريم، سيظل على الدوام وفيًّا لتضحياتكم، ومُقدِّرًا لبذلكم وعطائكم.