فسبحان من خلق البشرية كلها من نفس واحدة، وجعل لها مستقراً ومستودعاً، فنفس هي مستودع لهذه الخلية في صلب الرجل، ونفس هي مستقر لها في رحم الأنثى، ثم تأخذ الحياة بتقدير العزيز العليم في النمو والانتشار، فإذا أجناس وألوان، وذكور وإناث، وشعوب وقبائل، ونماذج وصور لا تحصى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)} ... [الأنعام: 98].
فسبحان من خلق هذه الخلائق، وأوجد الأعداد المناسبة من الذكور والإناث في عالم الإنسان، لكي تبقى الحياة والأحياء على وجه الأرض في توازن دائم: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)} [الشورى: 49، 50].
إن مبدع هذه المخلوقات العظيمة، وخالق هذه الكائنات العجيبة، هو الرب الملك القادر، الذي يستحق أن يُعبد وحده، وأن يُطاع فلا يُعصى، وأن يشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يتلقى منه وحده منهج الحياة كله، وأن لا يكون لغيره أمر ولا نهي، ولا شرع ولا حكم، ولا تحليل ولا تحريم، فذلك كله لله وحده لا شريك له.
وكل هذه المخلوقات، وكل هذه الكائنات تجري وفق سنة كونية أودعها الله في هذا الكون، يصاحبها قدر الله المصاحب لكل مخلوق.
وكلما حدث حدث وفق سنة الله، وكلما تمت حركة وفق قدر الله، انتفض هذا القلب، يرى قدر الله ينفذ، ويرى الخالق يخلق، ويرى الملِك يدبر في ملكه، ويرى الكريم يجود بفضله على خلقه آناء الليل وآناء النهار.
فيسبح بحمد ربه، ويكبره ويعظمه، ويذكره ويراقبه في كل لحظة، وفي كل حركة، ويشارك المخلوقات في أداء هذه العبادة لربه: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)}[الجمعة: 1].
ألا ما أعظم ربنا .. وما أعظم قدرته .. وما أعظم خلقه .. وما أسعد من أطاعه .. ؟.
فهل من ذاكر؟، وهل من شاكر؟، وهل من منيب؟، وهل من مستجيب؟.
وهل بقي بعد ذلك مجال لغير السمع والطاعة لله والرسول؟: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)}[الأنفال: 24].
فما أحسن الاستجابة لله والرسول، وما أجدر العاقل بذلك، وإن التولي عن الرسول وما جاء به من الدين بعد هذا كله ليبدو مستنكراً قبيحاً، لا يقدم عليه إنسان له قلب يتدبر، وعقل يتفكر: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)}[الأنفال: 20].
وهل يليق بالإنسان أن يعيش كالبهائم والأنعام والدواب؟، بل شر من الدواب، وأضل من البهائم، يُدعى فلا يستجيب، ويُؤمر فلا يطيع: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)}[الأنفال: 22].
والله تبارك وتعالى هو الرزاق الذي تكفل بأرزاق الخلائق كلها، الناطق والصامت .. والذاكر والغافل .. والسائل والساكت .. والمطيع والعاصي.
يرزق سبحانه جميع المخلوقات المبثوثة على وجه الأرض، والساكنة في باطن الأرض، والطائرة في جو السماء، والسابحة في قعر البحر، يعلم سبحانه أعدادها، وأصنافها، وحاجاتها، ويسوق لها أرزاقها في كل حين: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)}[هود: 6].
فسبحان الحي القيوم الذي خلق هذه الخلائق، وقسم أرزاقها، مع تباعد ديارها، واختلاف حاجاتها، ألا إنه بكل شيء بصير.
والأرزاق التي خلقها الله، والأرزاق التي يخلقها في كل حين ليس لها حد، ولا يحصيها أحد، وما يدركه البشر ويرونه ويعلمونه من رزق الله لا يساوي ذرة بالنسبة لما لا يعلمونه، ومقدار ما يعلمون لا يساوي قطرة من بحر بالنسبة لما في خزائن الله المملوءة بأصناف الأرزاق.
ولا يزال البشر يهتدون كل يوم إلى رزق من أرزاق الله التي بثها في هذا الكون العظيم.
فمن سطح الأرض أرزاق لا تحصر .. ومن جوفها أرزاق لا تعد .. ومن سطح الماء أرزاق .. ومن أعماق البحر أرزاق .. ومن أشعة الشمس أرزاق .. ومن ضوء القمر أرزاق .. ومن الجبال أرزاق .. ومن الرياح أرزاق.
وفي السماء أرزاق لا يعلمها إلا الله: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)}[المنافقون: 7].
وهذه الخلائق في البر والبحر إنما تصرف لها أرزاقها، وتعطى من خزائن الله، وهي لا تنقص مع الأخذ المستمر على مر الدهور والأزمان، بل جميع ما في الدنيا والآخرة من الأرزاق لا يساوي ذرة بالنسبة لما في خزائن الله من الأرزاق.
قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)}[ص: 54].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «قال: يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً، فَلا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، فَاسْتَغْفِرُونِي أغْفِرْ لَكُمْ. يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي.
يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا، عَلَى أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شيئاً، يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شيئاً يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبَحْر» أخرجه مسلم (1).
وكل ما في الكون من مخلوقات وأشياء وأحوال فخزائنها عند الله عزَّ وجلَّ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)}[الحجر: 21].
فسبحان العليم القدير الذي خلق الخلائق، وقسم أرزاقها، وعلم آجالها، وقهرها بجبروته، وصرفها بقدرته، وملكها بسلطانه.
ألا ما أجهل الإنسانَ بعظمة ربه، وما أقل شكره لنعمه.
فمتى يصحو ويفيق ويستجيب؟، والله شكور حليم غفور رحيم فمتى نتوب
اليه؟: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)}[الزمر: 53].
والله جل جلاله هو الملك الذي له الخلق والأمر في الكون كله: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)}[الأعراف: 54].
فالله وحده هو الذي يدبر الأمر في السموات والأرض.
فالسماء لها أوامر .. والأرض لها أوامر .. والبحار لها أوامر .. والجبال لها أوامر .. والرياح لها أوامر .. والشمس لها أوامر .. والقمر له أوامر .. والنبات له أوامر .. والحيوان له أوامر .. والإنسان له أوامر .. وكل شيء خلقه الله في هذا الكون له أوامر.
وكل سامع مطيع مقهور مستجيب لأوامر الله الكونية، أما أمر الله الشرعي فهو موجه إلى الإنس والجن، وقد منحهم الله الاختيار في قبوله أو رده: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)}[يونس: 31].
وكفار مكة الذين دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام لم يكونوا ينكرون وجود الله، أو ينكرون خلقه لهذه المخلوقات العظام، أو ينكرون تدبيره لهذه الكائنات الكبار كما قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)}[العنكبوت: 61].
ولكن انحراف الفطرة بسبب قلة المذكر كان يقودهم مع هذا الاعتراف إلى الشرك بالله، فيتجهون بالشعائر إلى سواه، كما يتبعون شرائع لم يأذن بها الله.
إن الرهبة والترقب، والخوف والطمع، والضراعة والارتجاف، والهيبة والخشية، كل ذلك يلم بالإنسان كلما نظر في ملكوت هذا الكون العظيم، وما يجري فيه من التدبير والتصريف، وهو يرى كل يوم وكل لحظة آثار قدرة الله في إحيـ، اء الأرض بعد موتها، وفي رؤية البرق، وإنشاء السحاب، وتسبيح الرعد، وصوت الصواعق: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)} [الرعد: 12 - 13].