قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]، وقال تعالى:
﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا ﴾ [النحل: 92]
والأنكاث: جمع نكث وهو الغزل المنقوض. وقال تعالى:
﴿ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [الحديد: 16]
وقال تعالى: ﴿ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾ [الحديد: 27].
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يا عبد الله لا تكن مثل فلانٍ كان يقومُ الليل فترك قيامَ الليل"؛ متفق عليه.
قَالَ سَماحةُ العلَّامةِ الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -:
قال المؤلف النووي - رحمه الله تعالى -: (باب: المحافظة على ما اعتاده من الخير) يعني أن الإنسان إذا اعتاد فعل الخير
فينبغي أن يداوم عليه؛ فمثلا إذا اعتاد ألا يدع الرواتب يعني الصلوات النوافل التي تتبع الصلوات الخمس فليحافظ على ذلك
وإذا كان يقوم الليل فليحافظ على ذلك، وإذا كان يصلى ركعتين من الضحى فليحافظ على ذلك، وكل شيء من الخير
إذا اعتاده فإنه ينبغي أن يحافظ عليه، وكان من هدى النبي صلى الله عليه وسلم أن عمله ديمةً، يعني يداوم عليه، فكان إذا عمل عملا
أثبته ولم يغيره؛ وذلك لأن الإنسان إذا اعتاد الخير وعمل به ثم تركه فإن هذا يؤدي إلى الرغبة عن الخير؛ لأن الرجوع بعد الإقدام
شر من عدم الإقدام، فلو أنك لم تفعل الخير ابتداء لكان أهون مما إذا فعلته ثم تركته، وهذا شيء مشاهد مجرب.
وذكر المؤلف - رحمه الله - عدة آيات من القرآن كلها تدل على أن الإنسان ينبغي أن يحافظ على ما اعتاده من الخير
فمن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا ﴾؛ يعني: لا تكونوا كالمرأة الغازلة التي تغزل
الصوف ثم إذا غزلته وأتقنته نقضته أنكاثًا ومزقته، بل دوموا على ما أنتم عليه.
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾؛ أي:
أنهم يعملون العمل الصالح لكن طال عليهم الأمد فقست قلوبهم وتركوا العلم فلا تكونوا مثلهم.
وأما الأحاديث التي ذكرها المؤلف فمنها: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل كلمة فلان يكني بها عن الإنسان البشر الرجل والمرأة يقال لها فلانة
وهذه الكلمة يحتمل أنها من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وأن الرسول لم يذكر اسمه لعبد الله بن عمرو سترا عليه لأن المقصود القضية
دون صاحبها ويحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم عينه لكن أبهمه عبد الله بن عمرو رضي الله عنه وأيا كان فالمهم العمل.
والقضية أن رجلا كان يقوم من الليل فلم يثبته ولم يداوم عليه، مع أن قيام الليل في الأصل سنة، فلو لم يفعله الإنسان
لم يلم عليه، يعني لو لم يقم من الليل ما لامه ولا قال له: لماذا لم تقم من الليل؟ لأنه سنة، لكن كونه يقوم ثم يرجع ويترك
هذا هو الذي يلام عليه؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تكن مثل فلانٍ كان يقومُ الليل فترك قيامَ الليل".
ومن ذلك وهو أهم وأعظم أن يبدأ الإنسانُ بطلب العلم الشرعي، ثمَّ إذا فتح الله عليه بما فتح تركه، فإنَّ هذا كفرُ نعمة
أنعمها الله عليه، فإذا بدأت بطلب العلم فاستمر إلا أن يشغلك عنه شيءٌ على وجه الضرورة، وإلا فداوم؛ لأن طلب العلم فرض كفاية
كل من طلب العلم فإن الله تعالى يثيبه على طلبه ثواب الفرض. وثواب الفرض أعظم من ثواب النافلة؛ كما جاء
في الحديث الصحيح أن الله تعالى قال: "ما تقرب إلا عبدي بشيء أحب إلى ما افترضته عليه"، فطلب العلم فرض كفاية
إذا قام به الإنسان قام بفرض عن عموم الأمة، وقد يكون فرض عين فيما إذا احتاج الإنسان إليه في نفسه، كمن أراد أن يصلى
فلا بد أن يتعلم أحكام الصلاة، ومن كان عنده مال فلابد أن يتعلم أحكام الزكاة، والبائع والمشتري لابد أن يتعلما أحكام
البيع والشراء، ومن أراد أن يحج فلابد أن يتعلم أحكام الحج؛ هذا فرض عين.
أما بقية العلوم فهي فرض كفاية، فإذا شرع الإنسان في طلب العلم فلا يرجع وإنما يستمر إلا أن يصده
عن ذلك شيء ضروري، ولهذا كان المنافقون هم الذين إذا بدأوا بالعمل تركوه.
في غزوة أحد خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم نحو ألف رجل وكان ثلثهم تقريبًا من المنافقين، ولما كانوا
في أثناء الطريق بين المدينة وأحد، رجع المنافقون؛ لأنهم لم يخرجوا لله، رجعوا وقالوا: ﴿ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ ﴾
قال الله تعالى: ﴿ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ ﴾ [آل عمران: 167].
فالحاصل أنه ينبغي للمسلم إذا من الله عليه بعمل مما يتعبد به لله من عبادات خاصة كالصلاة، أو عبادات
متعدية للغير كطلب العلم ألا يتقاعس وألا يتأخر بل يستمر على ذلك؛ فإن ذلك من هدي النبي صلى الله عليه وسلم
ومن إرشاده بقوله: " يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل". والله الموفق.
المصدر: «شرح رياض الصالحين» (4 / 55 - 59)
- سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين.