إمامُ الأخلاق صلى الله عليه وسلم
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا، وï´؟ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ï´¾ [الفرقان: 1-2]، وï´؟ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ï´¾ [الفرقان: 61-62]، وأشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، وأشهد أن محمدًا عبده و رسوله، اصطفاه و اجتباه، وأحبَّه وارتضاه، وقدمه على من سواه..
مُرْسلٌ نال بآيِ الذٍّكْرِ ما
لم ينله النجم في عالي مَداه
كل ما جاء به من مُعْجِزٍ
سَحَرَ الألباب قرآنٌ تلاه
قوَّةٌ كامنةٌ أخرجها
مثل ما يخرج طَلْعٌ من نَوَاه
بشَّر الشرك بموتٍ عاجلٍ:
أيها الشرك دنا يوم الوفاة
فإذا التيجان تهوي وإذا
بِرُعاةِ الإبْلِ للدنيا رُعاة
ومشى التاريخ يخطو خلفه
مُرْهَف الآذان ترنو مُقْلَتاه
قد رأى في الكون ما أذهله
فانْثَنى مندهشًا يَفْغَرُ فَاه
هاله فتحٌ ترامى أُفْقُه
وأذانٌ ردَّد الكون صداه
ومحاريبٌ بشرق الأرض أو
غربها تشدوا بتكبير الإله
يُهرَعُ الناس إليها زُمَرًا
كلما نادى المنادي للصلاة
مُرْسلٌ قد ملأ الدنيا اسمه
وغدا لحنًا على كل الشفاه
وغدت سيرته أنشودةً
يتلقاها رُوَاةٌ عن رُواة
وبها أمسى يسُوسُ الأرض من
يحْلِب النُّوق ومن يرعى الشِّياه
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذه إلياذةُ الأخلاق
سائغة الشراب والمذاقِ
نافعةً لسائرِ العبادِ
تهدي إلى الفلاح والرشادِ
فاليومَ نقفو منهج الحبيب
الهاشمي المجتبى المنيب
مع الرسول المصطفى محمدِ
أكرمِ من يهدي وخيرِ محتدي
مع إمام الدنيا، وأستاذ الدَّهر، وروح الحياة، ومعلِّم البشرية، وقدوة الإنسانية، وسيد الأنام، وقبةِ الأعلام، ولبنةِ التمام، ومُربِّي الأجيال، ومجمعِ الأخلاق، ومنبع المُثُل، ومؤسس المبادئ، وباني القيم، وهادي البرية إلى الرشد، ودليل الناس إلى الخير.
مع الأُمي الذي علَّم المتعلمين، واليتيم الذي بعث الأمل في قلوب البائسين، والهادي الذي قاد سفينةَ العالمِ الحائرةِ في خِضَم المحيط ومعترك الأمواج إلى شاطئ النجاة، وساحل الفوز، باتباع نهج رب العالمين.
مركبُ الشّعرِ عند شاطيهِ يرسو
والمعاني إذا ذكرناهُ أُنسُ
هتف الشّوقُ نحوه فاستنارتْ
أحرفٌ تحمِلُ الحنينَ ونفسُ
فعليك الصّلاةُ يا خيرَ داعٍ
ما اعتلى في السّماءِ بدرٌ وشمسُ
هل تتجرأُ النفوس أن تزاحم في محبتها للبشر سواه؟
وهل يمكن أن تشتاقَ لأحد إِلاَّه؟
وهل الفضل بعد الله إلا من نداه؟
الحمد لمن اصطفاه.
الفضل لمن رباه.
الشكر لمن حبَاه.
المنُّ لمن اجتباه.
شُغفتُ بحبِّه مُذْ كنت طفلًا
وشِبتُ وليس للحب انقضاءُ
يُضاعف حبُّه في القلب يومًا
فيومًا والمحبُّ له الهناءُ
والله لو كان لأحدنا ألفُ ألفِ لسان، وألفُ ألفِ بيان، وألفُ ألفِ بنان، وألفُ ألفِ تعبير، وألفُ ألفِ خيال، وألفُ ألفِ موهبةٍ، وألفُ ألفِ قدرة، وألفُ ألفِ كتاب، وألفُ ألفِ قلم - لعجَز عن التعبير، وإبداءِ ما في الضمير، ولو جاء بالعير والنفير، وامتلك النقير والقطمير.
ووالله ما في طاقة متحدِّث ولو ألقت إليه البلاغة أعِنتها، وأرخت إليه الفصاحة زمام الجناس والطباق، أو جاب بصدق مشاعره الآفاق، وبلغ في مجده السبع الطباق، أن يتقصَّى ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق.
فالمسكُ ما قد شفَّ عن ذاتِه *** لا ما غدا ينعَتُه بائعُهْ
يقول الصِّديق رضي الله عنه: أمَا إذا كلَّفْتموني أخلاقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فوَاللهِ ما ذاكَ عندي ولا عِنْد أحدٍ[1]، وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ رضي الله عنه، لَمَّا بَلَغَهُ مَبْعَثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ لِأَخِيهِ: ارْكَبْ إِلَى هَذَا الوَادِي فَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ، فَرَجَعَ فَقَالَ: «رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ»[2].
كيف؟ وهو المثلُ الأعلى في مكارم الأخلاق والخلال، وكريم السجايا والخصال، وبلغ ذِروة السَّنام في مراق الكمال، ونال منها غاية تنقطع دونها الآمال!
خُلقٌ ما شاهدت في مشرقٍ
مِثلَه عينٌ ولا في مغربِ
يحن له القلبُ والناظرُ
وتزكو به النفسُ والخاطرُ
ويشتاقه الكونُ والكائنات
وعن وصفه يَعْجِزُ القادرُ
إنه النبي الهادي، خيرُ من حضر النوادي، وأبرُّ من ركب الخوادي، وفاق الليوث العوادي، ولقد قرن الله ذكره بذكره على لسان كل ذاكر، وشَرُفت برسالته المنائر والمنابر، ولقد رفع الله ذكره، ولا خافض لِما رفعه الله، وجعل اسمَه مقرونًا باسمه، تهتف به ملايين الشفاه، فأين الثرى من الثريا؟ والصحيح من المدرج؟ والأسدُ من القرد؟ والرأس من الرجلين؟ والتاج من النعلين، وجيد الغزال من الذيل؟ وأين الباز من ذنب القط؟
فأخلاقه ومساعيه وسؤددُه صلى الله عليه وسلم، شواهدُ تتحدى كلَّ متحدٍّ.
إنه البشير النذير، والسراج المزهر المنير، النبي المصطفى، والرسول المجتبى، سيد الأولين والآخرين، وقائد الغُر المحجلين، الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، أرسله الله شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا.
قَمَرٌ تفرد بالكمالِ كمالُه
وحَوَى المحاسِنَ حُسْنُه وجمالُهُ
وتناول الكَرَمَ العريضَ نَوَالُه
وَحَوَى المفاخِرَ فخرُه المتقدِّمُ
فبربه صَلُّوا عليه وسلِّمُوا
واللهِ ما ذَرَأ الإلهُ ولاَ بَرَا
بَشَرًا ولا مَلَكًا كأحمدَ في الوَرَى
فعليه صلَّى اللهُ ما قلمٌ جَرَى
وجَلاَ الدياجيَ نورُه المُتبَسِّمُ
فبربِّه صَلُّوا عليه وسلِّمُوا
قمرٌ تشعشعَ مِن ذؤابةِ هاشمٍ
في الأرض نورُ هدايةٍ وصوابِ
العاقبُ الماحي الضَّلالةَ بالهدى
ومُدَمِّرُ الأزلامِ والأنصابِ
إنني على يقين أني لن أبلغ في الحديث عن أخلاق خير الخلائق صلى الله عليه وسلم، في هذه الدقائق، وكشف المكنون من الشمائل والحقائق، إلا مقدارَ ما يبلغه واصف الشمس وهو لا يعرف منها إلا أنَّها كوكبٌ ينسخ طلوعُه سوادَ الليل!
ومهما تتبارى القراح والأفهام، وتتزاحم الصحائف والأقلام، ناسجةً أحاديثَ مجدِه، مرتلةً آياتِ شمائله، عازفةً أناشيد عظمته؛ فستظل جميعُها كأن لم تبرح مكانها، ولم تحرك بالقول لسانها.
فَمَنْ يُحْصِي شَمَائِلَهُ اللَّوَاتِي
لَهَا فِي كُلِّ رَابِيَةٍ ثَنَاءُ
وَمَا أُثْنِي عَلَيْهِ وَفِيهِ طَهَ
ومَرْيَمُ وَالفَوَاتِحُ وَالنَّسَاءُ
وحسبنا أن نُنيخَ ركائبنا على ساحل بحر مسك أخلاقه؛ لنظفر منه بدرة، وعلى روض ريحان خلاله؛ لنشتم منها نفحة!
فما برحتْ منه الخلائق تَحتذي
شذًا تتهاداه الأنوفُ النواشقُ
فَإِنْ أَنَا لَمْ أُطْلِقْ لِسَانِي لِنَعْتِهِ
فَنَحْوِي وَصَرْفِي وَالبَلاغَةُ طَالِقُ
هيا بنا لنغرف من بَحره ونرتوي بدَرِّه، ونشنِّف المسامع بدُرِّه..
فاخلع نعالك في طُوى أكنافه *** وضع العصا في واده القدسان
هذه إيماءات سريعة على استحياء إلى بعض صفحات أخلاقه الناصعة، ومكارمه الفريدة، وفعاله الطاهرة.
إلى بعض سمات تفَوُّقِه وعظمته، وثباته ومنَعَتِه، والتي جعلت أفئدة الناس تهوي إليه، وجذبت نحوه في ولاءٍ - لا نظير له - ثلةً لا مثيل لها ولا شبيه، إنه ابن عبدالله محمد رسول الله إلى الناس في قيظ الحياة، أيُّ سرٍّ توفَّر له فجعل منه إنسانًا يُشَّرف بني الإنسان؟! وأيُّ يدٍ طُولى بسطها شطر السماء، فإذا كل أبواب رحمتها ونعمتها وهداها مفتوحةً على الرِّحاب؟!
أيُّ إيمانٍ أيُّ عزمٍ أيُّ مضاء؟
أيُّ صدقٍ أيُّ طهرٍ أيُّ نقاء؟
أيُّ تواضعٍ أيُّ حبٍّ أيُّ وفاء؟
أيُّ تقديسٍ للحق أيُّ احترامٍ للحياة والأحياء؟
كَمالُ خَلائِقٍ وكمالُ خَلقٍ
ومَا شَغلَ الهواجسَ كالكمالِ
تُريكَ بنُوره نِيرانُ كِسرى
بأنَّ الشيءَ يُحجبُ بالمِثالِ
وما خَطتْ كتابًا منه كفٌ
ولكنْ: ما كِتابٌ منهُ خالِ
وصدق الله: ï´؟ لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ï´¾ [آل عمران: 164].
فإذا كتاب الله أثنى مفصحًا
كان القصورُ قصارَ كل فصيح
فدتْه نفسي وتفديه أعاديه
بل كل ما فوق ظهرِ الأرض يفديه
والله، وبالله، وتالله، لا نعرف أحدًا كمَّله الله بكل فضيلة، ونزَّهه عن كل رذيلة، مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم!
فلن ترى في وصفه مثيلًا
مستوجبًا ثنائي الجميلا
فهو ختام الرسل باتفاقِ
وأفضل الخلق على الإطلاقِ
ما فضيلةٌ إلا وهي صفته، وإتمام مكارم الأخلاق مـن مَهمة بعثته.
سئلت أُمُّنا عائشة رضي الله عنها عن خُلُقه، فقالت: «كان خلقُه القرآن»[3]، ما خُلٌق سَنِيٌّ دعا القرآن له إلا كان أولَ عامل به، وداع إليه، وما خُلُق سيئٍ حذَّر منه القرآنُ إلا كان أولَ مجتنبٍ له، ومحذرٍ منه، وحالُه: ï´؟ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ï´¾ [هود: 88].
في وجهه قسماتٌ قد دللن على *** ما ضَمَّهُ القلبُ من أخلاقِ قرآن
كان صلى الله عليه وسلم أرجحَ الناس عقلًا، وأفضلَهم رأيًا، وأعظمَهم ذكاءً، ما عقول الأذكياء في جنْب عقله إلا كحبة رمل بين رمال الدنيا، وحسبه قول المولى: ï´؟ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ï´¾ [النساء: 113].
ولقد قرَّبه الله وحباه، واصطفاه واجتباه، وزكَّاه وكفاه، زكَّاه في عقله فقال: ï´؟ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ï´¾ [النجم: 2]، وزكَّاه في نُطقه، فقال: ï´؟ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ï´¾ [النجم: 3]، وفي استقامته، فقال: ï´؟ إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى ï´¾ [النجم: 4]، وفي جليسه، فقال: ï´؟ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ï´¾ [النجم: 5]، وزكَّى فؤاده، فقال: ï´؟ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ï´¾ [النجم: 11]، وزكَّاه في بصره، فقال: ï´؟ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ï´¾ [النجم: 17]، وزكَّاه في صدره، فقال: ï´؟ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ï´¾ [الشرح: 1]، وفي مكانته، فقال: ï´؟ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ï´¾ [الشرح: 2]، وزكَّاه في ذِكره، فقال: ï´؟ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ï´¾ [الشرح: 4]، وزكَّاه في حلمه، فقال: ï´؟ بالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ï´¾ [التوبة: 128]، وزكَّاه كلَّه، فقال: ï´؟ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ï´¾ [الأنبياء: 107]، وتوَّجَه بتاج الكمال، ووسام الشرف، فقال: ï´؟ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ï´¾ [القلم: 4].
فَلَو سُئلَتْ كلُّ الفضائل في الورَى
لمن تنتمي؟ ما أصلُها؟ أين توجدُ؟
لقالت جميعًا لا أبَا لك إنهُ
بلا مِريةٍ ما ذاك إلا محمّدُ
فوالله ما دبَّ على الأرض مثلُهُ
ولا مِثلُهُ حتى القيامة يوجدُ
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفروا الله العظيم الجليل، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيقول مستشرق لم يَملك نفسَه أمام تلك العظمة: «ما أحوجَنا اليوم إلى رجُلٍ كمحمَّد! يحلُّ مشاكل العالم وهو يَحتسي فنجان قهوة»[4].
نعم، فالشَّمس ليس تجلِّيها بمجحودٍ، فلو لم يكن بالوحي خيرَ الأنبياء، لكان بسيرته وخُلُقه أعظمَ العُظماء، فقد جُمِعَت فيه الخصال المفرَّقة
تفيض كفيْض الديمة المتدفِّقة
تردُّ خليَّات القلوب مشوقةً
وتهمي على فرع الأراك مطوّقة
وما كلِمي إلاَّ إليْها موجَّهٌ
وما هِمَّتي إلاَّ بها متعلقة
وإنِّي وإن أسْهبتُ لستُ ببالغٍ *** مداها ولو نازَعْتُ سَحبانَ منطِقَه
كان صلى الله عليه وسلم عظيمَ الأخلاق، كريم السجايا، مُهَذَّب الطِّباع، نقيَّ الفِطرَة، يقظ المشاعر، مشبوب الفؤاد، جَمَّ الحياء، حَيَّ العاطفة، جميل السِّيرة، طاهر السريرة، أُلبس إِهابَ الهَيبة، وتُوِّج تاجَ السِّيادة، وضُمِّخ بأذكى خَلوقٍ أذكى الأخلاق، وأُحِلَّ دارَ المُدَاراة، وأُعطِيَ لقطع مفازة الدنيا جَوادَ الجُودِ، فهو هلالُ شهرِ الكمال، وأميرُ جيشَ الجود، ورُوحُ جُثمانِ الكون، وحشاشةُ نفسِ الملكة[5].
مكانُك مِن قلبي وعيني كلاهما
مكانُ السُوَيدَا من فؤادي وأقربُ
وذِكْرُك في نفسي وإنْ شفَّها الظَّما
ألذُّ من الماء الزلالِ وأعذبُ
إي واللهِ، وبالله، وتالله!
دماءٌ مزجناها بحبِّ محمدٍ *** وأكبادُنا من شوقها تتوقدُ
فاللهم ارزُقنا الشوقَ إلى لقياه، وشرفَ محبته والذبِّ عنه، وعن سُنَّتِه في الدنيا، وشرفَ جِواره والقربِ منه والشُّرب من حَوضه في الآخرة.
يقول صلى الله عليه وسلم: «بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ قَرْنًا فَقَرْنًا، حَتَّى كُنْتُ مِنَ الْقَرْنِ الَّذِي كُنْتُ فِيْهِ»[6].
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَبَّابًا، وَلاَ فَحَّاشًا، وَلاَ لَعَّانًا، كَانَ يَقُولُ لِأَحَدِنَا عِنْدَ المَعْتِبَةِ: «مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ»؟[7].
وَعَنْ عَبْدِالله بْنِ عَمْروٍ رضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قالَ: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاحِشًا وَلا مُتَفَحِّشًا، وَكَانَ يَقُولُ: «إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أحْسَنَكُمْ أخْلاقًا»[8].
فَأَسْعَدُ أَهْلِ الأَرْضِ تَابِعُ خَطْوِهِ
وَمَنْ زَاغَ عَنْهُ هَالِكٌ فِي الهَوَالِكِ
هذا هو النَّهر فانهلْ أيُّها الصادي
من عذب أخلاقِه في حسن إسناد
كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَقٌّ، فَأَغْلَظَ لَهُ، فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا»، فَقَالَ لَهُمْ: «اشْتَرُوا لَهُ سِنًّا، فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ»، فَقَالُوا: إِنَّا لَا نَجِدُ إِلَّا سِنًّا هُوَ خَيْرٌ مِنْ سِنِّهِ، قَالَ: «فَاشْتَرُوهُ، فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ، فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ، أَوْ خَيْرَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً»[9].
وفي رواية: فَطَلَبُوا سِنَّهُ، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ إِلَّا سِنًّا فَوْقَهَا، فَقَالَ: «أَعْطُوهُ»، فَقَالَ: أَوْفَيْتَنِي أَوْفَى اللَّهُ بِكَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً»[10].
نفسي وما ملكت يدي
والوالدان له فدا
صلى عليه وسلما
ذو العرش ما صبحٌ بدا
وعَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، أَنَّ أَبَاهُ مَخْرَمَةَ قَالَ لَهُ: يَا بُنَيِّ، إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدِمَتْ عَلَيْهِ أَقْبِيَةٌ فَهُوَ يَقْسِمُهَا، فَاذْهَبْ بِنَا إِلَيْهِ، فَذَهَبْنَا فَوَجَدْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي مَنْزِلِهِ، فَقَالَ لِي: يَا بُنَيِّ ادْعُ لِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَعْظَمْتُ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: أَدْعُو لَكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟! فَقَالَ: يَا بُنَيِّ، إِنَّهُ لَيْسَ بِجَبَّارٍ، فَدَعَوْتُهُ، فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُزَرَّرٌ بِالذَّهَبِ، وَهُوَ يُرِيهِ مَحَاسِنَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: «خَبَأْتُ هَذَا لَكَ خَبَأْتُ، هَذَا لَكَ»، قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: «رَضِيَ مَخْرَمَةُ»[11].
بمديحِهِ العَطِرِ المُنيفِ تَعَطَّرَتْ
وتطهَّرَتْ وتنوَّرْتَ أوْزَانِي
يُعطِي القَرِيضَ غَضاضةً ونضارةً
وفَصاحةً تُرْبِي على سَحْبَانِ
كان صلى الله عليه وسلم يعودُ المريض، ويُجيب دعوةَ المملوك، ويجلسُ على الأرض، ويَلبَسُ الخشِن، ويأكلُ البشع، ويَبيتُ اللياليَ طاويًا، يتقلبُ في قفرِ الفقر، ولسانُ الحال يناديه: يا محمد، نحن نَضِنُّ بك عن الدنيا، لا بها عنك.
إذا قيل فيك الشِّعْرُ جاء مُهَذَّبًا
جَليَّ المعاني ليس فيه عَويصُ
ووَصْفُك يُعْطِي الفهم نُورًا كأنَّهُ
على الدُّرِّ في البحر الخِضمِّ يَغُوصُ
فهنيئًا لـ ï´؟ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون ï´¾ [الأعراف: 157].
صلى عليه ربُّنا وسلَّما *** ما استقبلتْ أوديةٌ غيثَ السما
ï´؟ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ï´¾ [النور: 54].
فكُن في اتّباع المصطفى مثل عصبةٍ
وراء خبيرٍ في مُلَغَّم بقعةِ
فمن ينحرفْ يردَ ومن يتبعْ يفُزْ
وبين الردى والفوز زحفٌ بخطوةِ
فالزم صفاتِه وإياك المللْ
إنْ يستطلْ وصلٌ وإنْ لم يستطلْ
اجعله نصب العين والقلب ولا
تعدل به فهو يضاهي المثلَا
ï´؟ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ ï´¾ [الأحزاب: 21].
صلاح القدوة صلاح الأتباع، وإن صلَحت العين صلَح سواقيها.
وإنْ رشد المربِّي كان موسى *** وإنْ هو ضل كان السامريا
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وكفِّر عنَّا سيئاتنا، وتوفَّنا مع الأبرار.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ربنا وسِعت كلَّ شيء رحمةً وعلمًا، فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقِهمْ عذابَ الجحيم.
اللهم أقلْ عثراتنا، واغفِر زلاتنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار.
[1] أخرجه ثعلب في المجالس ص (78).
[2] رواه البخاري في صحيحه، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، باب حسن الخلق والسخاء، وما يُكره من البخل (8/ 13).
[3] أخرجه أحمد في مسنده، من حديث سعد بن هشام (42/ 183، 43/ 15)، قال شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح.
[4] موسوعة الغزو الفكري والثقافي وأثره على المسلمين (10/ 218).
[5] موافق المرافق لابن الجوزي ص (91).
[6] رواه البخاري في صحيحه (3557)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم (4/ 189).
[7] رواه البخاري في صحيحه (6031)، باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحشًا (8/ 13).
[8] رواه البخاري في صحيحه (3559)، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم (4/ 189).
[9] رواه مسلم في صحيحه (1601)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، باب من استسلف شيئًا، فقضى خيرًا منه، وخيركم أحسنكم قضاءً (3/ 1225).
[10] رواه البخاري في صحيحه (2305)، باب وكالة الشاهد والغائب جائزة (3/ 99).
[11] مجموع الحديث جاء في روايات للبخاري في صحيحه، الأولى (5862)، باب المزرر بالذهب (7/ 155)، والثانية (2657)، باب شهادة الأعمى وأمره ونكاحه (3/ 172)، والثالثة (2599)، باب كيف يقبض العبد والمتاع (3/ 160).
؛ |
|
|
|