شهر ذي الحجة: فضائل وأعمال مباركة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فإنه لَمِنَ المقرر المعلوم أن الأعمال الصالحة تتفاضل زمانًا ومكانًا، وإن من هذه الأزمنة التي تفضُل فيها الأعمال العشر الأُوَلَ من شهر ذي الحجة، فالعمل الصالح فيها يفضل بشتى أنواعه وصوره؛ لحديث عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: ((ما من أيامٍ العملُ الصالح فيها أحبُّ إلى الله عز وجل من هذه الأيام؛ يعني أيام العشر، قال: قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلًا خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء))؛ [أخرجه أحمد في مسنده (١٩٦٨)، وإسناده صحيح على شرط الشيخين شعيب الأرنؤوط، وأخرجه أبو داود (٢٤٣٨)، والترمذي (٧٥٧)، وابن ماجه (١٧٢٧)، وأحمد (١٩٦٨) واللفظ له)).
ويدل هذا الحديث الصحيح على فضل الأعمال الصالحة في العشر الأُوَلِ من شهر ذي الحجة؛ لِما فيها من مضاعفة لأجر العمل الصالح ما لا يتضاعف في غيرها من أيام السنة.
وظاهر الحديث من حيث المعنى والفهم الشامل له أطلق الأعمال الصالحة، ولم يقيِّدها بعمل صالح معين ومقيد، ولا يُقيَّد منها إلا ما ورد وصحَّ تقييدُه، وإلا يبقى على إطلاقه، والأعمال الصالحة الواردة تشمل: الذكر والتسبيح، والاستغفار وقراءة القرآن، والصدقة وصلة الرحم والصيام، وغيرها من أنواع القُرُبات والطاعات، ولعل من أسباب فضل العمل في العشر الأُوَلِ من شهر ذي الحجة على غيرها من الأوقات هو اجتماع أمهات العبادات فيها؛ كما ذكر الحافظ ابن حجر: "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه؛ وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره"؛ [فتح الباري، 3/ 390].
لذا ينبغي للعبد المسلم الكيِّس الفَطِن أن يستقبل مواسم الطاعات والبركات - ومنها العشر الأول من شهر ذي الحجة - بالتوبة الصادقة، والرجوع إلى الله جل وعلا، ففي التوبة والأوبة فلاح ونجاح للعبد في الدنيا والآخرة؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31]؛ أي: ارجعوا - أيها المؤمنون - إلى طاعة الله تبارك وتعالى فيما أمركم به من الصفات الجميلة والأخلاق الحميدة، واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة؛ رجاء أن تفوزوا بخيري الدنيا والآخرة.
وقال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التحريم: 8]؛ أي: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، ارجعوا عن ذنوبكم إلى طاعة الله رجوعًا لا معصية بعده، وتوبوا إلى الله جل وعلا من ذنوبكم توبة صادقة؛ عسى ربكم أن يمحوَ عنكم سيئات أعمالكم، وأن يدخلكم جنات تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهارُ، يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه، ولا يعذبهم، بل يُعلي شأنهم، نور هؤلاء يسير أمامهم وبأيمانهم حال مَشْيِهم على الصراط بقدر أعمالهم، يقولون: ربنا أتمم لنا نورنا حتى نجوز الصراط، ونهتديَ إلى الجنة، واعفُ عنا وتجاوز عن ذنوبنا واسترها علينا، إنك على كل شيء قدير.
ومما ينبغي أن يحرِص عليه العبد العزمُ الجادُّ، والإرادة القوية على اغتنام مثل هذه الأيام المباركات بالأعمال الصالحات، والإقلاع عن المعاصي والخطيئات، وأن يعمل على مجاهدة النفس على ذلك؛ قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69]؛ أي: والمؤمنون الذين جاهدوا أعداء الله، والنفس، والشيطان، وصبروا على الفتن والأذى في سبيل الله، سيهديهم الله سُبُلَ الخير، ويثبتهم على الصراط المستقيم، ومن هذه صفته فهو محسن إلى نفسه وإلى غيره، وإن الله سبحانه وتعالى لمع مَن أحسن مِن خلقه بالنصرة والتأييد، والحفظ والهداية.
فضائل العشر من شهر ذي الحجة:
أولًا: أنها من الأيام التي شرع فيها ذكر الله تبارك وتعالى:
إن هذه الأيام من الأيام المعلومات التي شرع فيها ذكره سبحانه وتعالى؛ قال الله تعالى: ﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ﴾ [الحج: 28]؛ أي: ليحضروا ما يعود لهم بالنفع من مغفرة الذنوب، والحصول على الثواب، وتوحيد الكلمة وغير ذلك، وليذكروا اسم الله جل وعلا على ما يذبحونه من الهدايا في أيام معلومات هي: عاشر ذي الحجة وثلاثة أيام بعده، شكرًا لله تعالى على ما رزقهم من (الإبل والبقر والغنم)، فكلوا من هذه الهدايا، وأطعموا منها من كان شديدَ الفقر.
فعن قتادة في تفسير قوله تعالى: ﴿ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ﴾، قال: "أيام العشر، والمعدودات: أيام التشريق".
وعن أبي بشر عن سعيد عن ابن عباس: الأيام المعلومات: "أيام العشر"، وعلقه البخاري عنه بصيغة الجزم به.
ويُروَى مثله عن أبي موسى الأشعري، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والضحاك، وعطاء الخراساني، وإبراهيم النخعي، وهو مذهب الشافعي، والمشهور عن أحمد بن حنبل.
ثانيًا: أن الله تعالى أقسم بالليالي العشر:
وإذا أقسم الله تبارك وتعالى بشيء دلَّ هذا على عظم مكانته وفضله؛ إذ العظيم لا يقسم إلا بالعظيم؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾ [الفجر: 2]؛ أي: وأقسم بالليالي العشر الأولى من ذي الحجة.
قال ابن كثير: "والليالي العشر: المراد بها عشر ذي الحجة، كما قاله ابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد، وغير واحد من السلف والخلف".
وقال القرطبي: "فهي ليالٍ عشر على هذا القول؛ لأن ليلة يوم النحر داخلة فيه، إذ قد خصها الله بأن جعلها موقفًا لمن لم يدرك الوقوف يوم عرفة، وإنما نُكِّرت ولم تُعرَّف؛ لفضيلتها على غيرها، فلو عُرِّفت لم تُستقْبَل بمعنى الفضيلة الذي في التنكير، فنُكِّرت من بين ما أقسم به، للفضيلة التي ليست لغيرها، والله أعلم.
ثالثًا: إن أيام العشر الأُوَلِ من شهر ذي الحجة أفضل أيام الدنيا؛ ففي الحديث عن جابر بن عبدالله رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أفضل أيام الدنيا العشر – يعني: عشر ذي الحجة - قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: ولا مثلهن في سبيل الله، إلا رجل عفَّر وجهه بالتراب))؛ [صحيح الترغيب، الألباني (١١٥٠)، صحيح لغيره].
رابعًا: أن في العشر من شهر ذي الحجة يومَ عرفة:
إن يوم عرفةَ من الأيام الفاضلة، فكيف لا يكون كذلك، وهو يوم الحَجِّ الأكبر، ويوم مغفرة الذنوب، ويوم العتق من النيران؛ ففي الحديث عن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار، من يوم عرفة، وإنه ليدنو، ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟))؛ [أخرجه مسلم (١٣٤٨)].
لذا فإنه يُشرَع ويُستحب صومُ عرفة؛ حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن فضل صوم يوم عرفة أنه يكفر السنة الماضية والباقية؛ ففي الحديث عن أبي قتادة بن ربعي رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن صوم يوم عرفة، فقال: ((يكفر السنة الماضية والباقية))؛ [أخرجه مسلم (١١٦٢)].
وكما هو ظاهر في هذا الحديث؛ حيث أجاب النبي صلى الله عليه وسلم من سأله عن صوم يوم عرفة أن من صامه يغفر الله جل وعلا له ذنوب سنتين؛ السنة الماضية، والسنة الآتية، وهذا الصوم يكون لغير الحاج؛ فإن الحاج يُكْرَهُ له صيام يوم عرفة؛ وذلك لأن الصوم في هذا اليوم يُضعِف الحاج عن الوقوف والدعاء، وأما غير الحاج، فإنه مخاطب بهذا الحديث في الفضل والنَّوال من الله عز وجل، والمراد بيوم عرفة: هو يوم التاسع من ذي الحجة، سُمِّيَ بذلك؛ لأن فيه ركنًا من أركان الحج؛ وهو الوقوف بعرفة بمكة.
خامسًا: أن في العشر من شهر ذي الحجة يومَ النحر، ويوم القَرِّ؛ ففي الحديث عن عبدالله بن قرط رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر، قال أبو بكر: يوم القر يعني: يوم الثاني من يوم النحر))؛ [صحيح ابن خزيمة، ٤/ ٤٦٥].
سادسًا: أن في العشر من شهر ذي الحجة اجتماع أمهات العبادة فيها:
إن من أسباب فضل الأعمال في العشر الأول من ذي الحجة على غيرها من الأوقات هو اجتماع أمهات العبادات فيها؛ كما ذكر الحافظ ابن حجر: "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه؛ وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره"؛ [فتح الباري لابن حجر، 3/ 390].
سابعًا: أن العمل يفضُل في الأيام العشر من شهر ذي الحجة على غيره من الأيام:
فالعمل الصالح فيها يفضل بشتى أنواعه وصوره؛ لحديث عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: ((ما من أيامٍ العملُ الصالح فيها أحبُّ إلى الله عز وجل من هذه الأيام؛ يعني: أيام العشر، قال: قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلًا خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء))؛ [أخرجه أحمد في مسنده (١٩٦٨)، وإسناده صحيح على شرط الشيخين شعيب الأرنؤوط، وأخرجه أبو داود (٢٤٣٨)، والترمذي (٧٥٧)، وابن ماجه (١٧٢٧)، وأحمد (١٩٦٨) واللفظ له].
من الأعمال المستحبة في العشر من شهر ذي الحجة:
إن من الأعمال التي يُستحَب للمسلم أن يحرص عليها ويُكْثِرَ منها في مثل هذه الأيام من مواسم الطاعات والبركات والقربات - ما يلي:
أولًا: أداء مناسك الحج والعمرة:
إن أداء مناسك الحج والعمرة من الأعمال الفاضلة التي ينبغي للعبد الحرص عليها؛ لعظيم ما يترتب عليها من أجر ومثوبة، والموفَّق من يسَّر الله جل وعلا له أداء الحج والعمرة؛ حيث أخبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، والحج المبرور هو: الذي لا يخالطه إثم، أو هو المتقبَّل الخالص الخالي من الرياء والسمعة، وقد تحققت فيه أركانه وواجباته، وهذا الحج جزاؤه عند الله تعالى هو الجنة؛ ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((العمرة إلى العمرة كفَّارة لِما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة))؛ [أخرجه البخاري (١٧٧٣)، ومسلم (١٣٤٩)].
ثانيًا: المحافظة على صلاة الفريضة والنافلة:
إنَّ من أجلِّ الأعمال وأعظمها أجرًا، وأكثرها فضلًا أداءَ الصلاة فرضًا ونفلًا؛ ولهذا يجب على المسلم المحافظة عليها في أوقاتها مع الجماعة، وعليه بالإكثار من النوافل في مثل هذه الأيام المباركات، فإنها من أفضل القُرُبات إلى رب البَرِيَّات جل وعلا؛ ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: ((إن الله قال: مَن عادى لي وليًّا، فقد آذنتُه بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضتُ عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأُعْطِيَنَّه، ولئن استعاذني لأُعِيذَنَّه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن؛ يكره الموت، وأنا أكره مساءته))؛ [أخرجه البخاري، (٦٥٠٢)].
وإن من النوافل التي ينبغي للعبد المحافظة عليها صلاة الضحى، وصلاة الضحى هي صلاة الأوابين؛ ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صلاة الضحى صلاة الأوابين))؛ [صحيح الجامع، الألباني، (٣٨٢٧)].
وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((صلاة الأوابين حين تَرْمَضُ الفِصَالُ))؛ [أخرجه مسلم (٧٤٨)]، (الأوابين)؛ أي: المطيعين والمسبحين، كثيري الرجوع بالتوبة إلى الله تعالى، والإخلاص في الطاعة.
ويستفاد من الحديث: فضيلة صلاة الضحى في آخر الوقت، وفيه: إشارة إلى اغتنام العبادة والانشغال بالطاعة في أوقات الدعة والسكون والاستراحة.
ومن النوافل التي يترتب عظيم الأجر والثواب؛ وهو دخول الجنة - صلاة اثنتي عشرة ركعة دون الفريضة، وهي السنن الرواتب؛ ففي الحديث عن أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صلى في يوم ثنتي عشرة سجدةً تطوعًا، بُنِيَ له بيت في الجنة))؛ [أخرجه مسلم، (٧٢٨)].
وفي هذا الحديث يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن من صلى في يوم ثنتي عشرة سجدةً تطوعًا؛ أي: غير الفريضة، وهي السنن الرواتب؛ وهي: أربع قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر، كما في سنن الترمذي، فمن فعل ذلك كان الجزاء والأجر لمن حافظ عليهن أن يبني الله له بيتًا في الجنة.
وفي الحديث: الحث على أداء صلاة التطوع.
وفيه: بيان فضل السنن الرواتب.
ثالثًا: الصيام:
يستحب ويشرع صيام الأيام التسع الأول من شهر ذي الحجة، وهو من جملة الأعمال الصالحة الوارد ذكرها في الحديث، وصومها محل اتفاق لدى الأئمة الأربعة: الحنفية والمالكية، والشافعية والحنابلة، كما هو مقرر وثابت في كتب الفقهاء؛ حيث قالوا: ويستحب صوم الأيام الثمانية الأول من شهر ذي الحجة، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وهو قول الظاهرية؛ [الفتاوى الهندية (1/201)، وحاشية الدسوقي (1/515، 516)، والمجموع للنووي (6/386)، وكشاف القناع للبهوتي (2/338)، والمحلى لابن حزم (7/19).
واستدلوا على ذلك بحديث عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما سالف الذكر.
ولقد أفتى ثلة من العلماء المعاصرين بجواز واستحباب صيام الأيام التسع الأول من شهر ذي الحجة، وقرروا أن صيامها من جملة العمل الصالح الوارد في الحديث، ومنهم فضيلة العلامة ابن باز، وفضيلة العلامة ابن عثيمين، رحمهم الله تعالى، وغيرهم من العلماء المعاصرين.
قال ابن عثيمين: ولنسأل: هل الصيام من الأعمال الصالحة؟ الجواب: نعم بلا شك، ولهذا جعله الله من أركان الإسلام، فالصيام بلا شك من الأعمال الصالحة حتى قال الله تعالى في الحديث القدسي: ((الصوم لي وأنا أجزي به))، وإذا كان كذلك، فإن الصوم مشروع، ومن زعم أن العشر لا تُصام، فليأتِ بدليل على إخراج الصوم من هذا العموم: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر))... وإذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصُمْها، فهذه قضية عينٍ، ربما كان لا يصوم؛ لأنه يشتغل بما هو أنفع وأهم، لكن عندنا لفظ الرسول عليه الصلاة والسلام: ((ما من أيام العمل الصالح فيهنَّ أحب إلى الله من هذه الأيام العشر))، على أنه قد رُويَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يَدَعُ صيامها، وقدَّم الإمام أحمد هذا - أعني: أنه لا يدع صيامها - على رواية النفي، وقال: إن المثبت مقدم على النافي، لكن على فرض أنه ليس هناك ما يدل على أنه يصوم، فإنه داخل في عموم: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر))"؛ [اللقاء الشهري، لابن عثيمين، 34].
وقال ابن باز: "ولكن عدم صومه صلى الله عليه وسلم العشر لا يدل على عدم أفضلية صيامها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد تعرض له أمور تشغله عن الصوم، وقد دلَّ على فضل العمل الصالح في أيام العشر حديث ابن عباس المخرج في صحيح البخاري، وصومها من العمل الصالح، فيتضح من ذلك استحباب صومها في حديث ابن عباس، وما جاء في معناه"؛ [مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز، 15/ 417].
وأما الاستدلال بما رواه مسلم بإسناده عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائمًا في العشر قط))، فقد أجاب عنه أهل العلم، كما ذكر الإمام النووي: "قول عائشة: ((ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائمًا في العشر قط))، وفي رواية: ((لم يصُمِ العشر))، قال العلماء: هذا الحديث مما يوهم كراهة صوم العشر، والمراد بالعشر هنا الأيام التسعة من أول ذي الحجة، قالوا: وهذا مما يُتَأوَّل، فليس في صوم هذه التسعة كراهة، بل هي مستحبة استحبابًا شديدًا، لا سيما التاسع منها؛ وهو يوم عرفة، وقد سبقت الأحاديث في فضله... فيتأول قولها: (لم يصُمِ العشر) أنه لم يصمه لعارض مرض أو سفر أو غيرهما، أو أنها لم تَرَهُ صائمًا فيه، ولا يلزم من ذلك عدم صيامه في نفس الأمر، ويدل على هذا التأويل حديث هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر، الاثنين من الشهر والخميس))؛ [رواه أبو داود وهذا لفظه، وأحمد، والنسائي]"؛ [شرح النووي على مسلم، 8/ 71].
وقد يترك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صيام العشر الأول من شهر ذي الحجة لعارض يعرَض له من سفر أو مرض أو غيرهما من الأعذار.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: "وأما حديث عائشة قالت: ((ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائمًا في العشر قط))، وفي رواية: ((لم يصم العشر))؛ [رواهما مسلم في صحيحه]، فقال العلماء: وهو متأول على أنها لم تَرَهُ، ولم يلزم منه تركه في نفس الأمر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يكون عندها في يوم من تسعة أيام، والباقي عند باقي أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، أو لعله صلى الله عليه وسلم كان يصوم بعضه في بعض الأوقات، وكله في بعضها، ويتركه في بعضها لعارض سفر أو مرض أو غيرهما، وبهذا يجمع بين الأحاديث"؛ [المجموع، للنووي (6/441)].
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى: "تقدمت أحاديث تدل على فضيلة العمل في عشر ذي الحجة على العموم، والصوم مندرج تحتها، وأما ما أخرجه مسلم عن عائشة أنها قالت: ((ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائمًا في العشر قط))، فقال العلماء: المراد أنه لم يصُمْها لعارض مرض أو سفر أو غيرهما، أو أن عدم رؤيتها له صائمًا لا يستلزم العدم، على أنه قد ثبت من قوله ما يدل على مشروعية صومها، كما في حديث الباب، فلا يقدح في ذلك عدم الفعل"؛ [نيل الأوطار، الشوكاني، (4/283)].
وربما يترك النبي صلى الله عليه وسلم العملَ وهو يحب أن يعمله؛ خشية أن يفرض على أمته.
قال ابن حجر: "لاحتمال أن يكون ذلك؛ لكونه كان يترك العمل وهو يحب أن يعمله؛ خشية أن يفرض على أمته"؛ [فتح الباري، 2/ 460].
رابعًا: الصدقة:
إن من جملة الأعمال الصالحة التي ينبغي للعبد الحرص عليها في مثل هذه الأوقات المباركات الحرصَ على الصدقة؛ حيث إن أهلها من الذين يرجون بذلك تجارة لن تكسُدَ ولن تهلِك ولن تبور؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [فاطر: 29، 30]؛ أي: إن الذين يقرؤون القرآن ويعملون به، وداوموا على الصلاة في أوقاتها، وأنفقوا مما رزقناهم من أنواع النفقات الواجبة والمستحبة سرًّا وجهرًا، هؤلاء يرجون بذلك تجارة لن تكسُد ولن تهلِك؛ ألا وهي رضا ربهم، والفوز بجزيل ثوابه؛ ليوفيهم الله تعالى ثواب أعمالهم كاملًا غير منقوص، ويضاعف لهم الحسنات من فضله، إن الله غفور لسيئاتهم، شكور لحسناتهم، يثيبهم عليها الجزيل من الثواب.
ولقد أثنى الله جل وعلا على الذين أدَّوا الصلاة على أتم وجوهها، وأدَّوا من أموالهم زكاتهم المفروضة، والنفقات المستحبة في الخفاء والعلن؛ قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 22]؛ أي: وهم الذين صبروا على الأذى وعلى الطاعة، وعن المعصية طلبًا لرضا ربهم، وأدَّوا الصلاة على أتم وجوهها، وأدَّوا من أموالهم زكاتهم المفروضة، والنفقات المستحبة في الخفاء والعلن، ويدفعون بالحسنة السيئة فتمحوها، أولئك الموصوفون بهذه الصفات لهم العاقبة المحمودة في الآخرة.
خامسًا: التكبير والتحميد والتهليل والذكر:
يُستحَب الإكثار من التكبير والتحميد والتهليل في أيام العشر من شهر ذي الحجة؛ ففي الحديث عن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من أيام أعظمَ عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر؛ فأكْثِروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد))؛ [أخرجه أحمد (٥٤٤٦)، والدارقطني في العلل (١٢/٣٧٦) واللفظ لهما، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (٢٩٧١)، وأحمد شاكر، تخريج المسند لشاكر ٩/١٤، إسناده صحيح].
وفي هذا الحديث يرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى فضل العمل الصالح في العشر الأوائل من ذي الحجة؛ فيقول صلى الله عليه وسلم: ((ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إليه من العمل فيهن))، والمعنى: أن أفضل أيام السنة عند الله عز وجل، والتي يكون فيها العمل الصالح أقرب أن يُقبَلَ ويُزاد في الأجر، من هذه الأيام العشر؛ يعني: العشر الأوائل من ذي الحجة؛ فأكثروا فيهن من التهليل؛ وهو قول لا إله إلا الله، والتكبير؛ وهو قول: الله أكبر، والتحميد؛ وهو قول: الحمد لله، وهذا الذكر هو الباقيات الصالحات، ويحسُنُ عمل الطاعات بأنواعها في هذه الأيام مع الذكر والدعاء.
وفي الحديث: بيان عظم فضل العشر الأوائل من ذي الحجة على غيرها من أيام السنة.
وفيه: تفضيل بعض الأزمنة على بعض.
وفيه: أن العمل المفضول في الوقت الفاضل يلتحق بالعمل الفاضل في غيره من الأوقات.
ويستحب للمسلم أن يجهر بالتكبير في هذه الأيام ويرفع صوته به؛ حيث اتفق العلماء على أن التكبير مشروع عقب الصلوات وغيرها في الأضحى؛ قال البخاري: وكان عمر رضي الله عنه يكبر في قبته بمِنًى، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتجَّ مِنًى تكبيرًا، وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام، وخلف الصلوات، وعلى فراشه، وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه تلك الأيام جميعًا؛ [كتاب الدين الخالص أو إرشاد الخلق إلى دين الحق، السبكي، (ص361)، فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، (315/ 2)، (التكبير أيام منى)].
(وكان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله تعالى عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبِّران ويكبِّر الناس بتكبيرهما).
قال ابن حجر في الفتح (2/ 458): "لم أرَهُ موصولًا عنهما، وقد ذكره البيهقي أيضًا معلقًا عنهما، وكذا البغوي".
قال ابن رجب في الفتح (9/ 8): "وأما ما ذكره البخاري عن ابن عمر وأبي هريرة، فهو من رواية سلام أبي المنذر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد أن ابن عمر وأبا هريرة كانا يخرجان في العشر إلى السوق".
وصفة التكبير في العشر من شهر ذي الحجة:
اختلف العلماء في صفة التكبير في العشر الأولى من شهر ذي الحجة على أقوال:
الأول: "الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد".
الثاني: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد".
الثالث: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد ".
فيصح التكبير في أي صفة من هذه الصفات، والأمر في ذلك واسع.
وقت التكبير في العشر من ذي الحجة:
التكبير ينقسم إلى قسمين:
1- التكبير المطلق: وهو الذي لا يتقيد بشيء، فيُسَنَّ دائمًا، في الصباح والمساء، قبل الصلاة وبعد الصلاة، وفي كل وقت من اليوم والليلة.
2- التكبير المقيد: وهو الذي يتقيد بأدبار الصلوات.
ويُسَنَّ التكبير المطلق في عشر ذي الحجة وسائر أيام التشريق، وتبتدئ من دخول شهر ذي الحجة - أي: من غروب شمس آخر يوم من شهر ذي القعدة - إلى آخر يوم من أيام التشريق، وذلك بغروب شمس اليوم الثالث عشر من شهر ذي الحجة.
وأما التكبير المقيد، فإنه يبدأ من فجر يوم عرفة إلى غروب شمس آخر أيام التشريق - بالإضافة إلى التكبير المطلق – فإذا سلم من الفريضة واستغفر ثلاثًا، وقال: "اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام"، بدأ بالتكبير؛ [مجموع فتاوى ابن باز، 13/17، والشرح الممتع لابن عثيمين، 5/ 220] |
|
|
|