﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 217، 218].
لَما أخبر تعالى أنه كتب على المؤمنين القتال، أرسل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سرية بقيادة عبد الله بن جحش في ثمانية معه - وكانت أول سرية في الإسلام - يترصدون عِيرَ قريش ببطن نخلة، فشاء الله تعالى أن يلقى عبد الله ورجاله عيرًا لقريش قافلة من الطائف فقاتلوهم، فقتلوا منهم رجلًا يُدعى عمرو بن الحضرمي، وكان أول قتيل من المشركين، وأسروا اثنين وكانا أوَّل أسيرين في الإسلام، وأخذوا العير وقفلوا راجعين، وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الثانية على ظنهم، وهو أوَّل يوم من رجب.
فثارت ثائرة قريش وقالت: "محمد يحل الشهر الحرام بالقتال فيه"، ورَدَّد صوتهَا اليهود والمنافقون بالمدينة، حتى إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقف العير والأسيرين، ولم يقضِ فيهما بشيءٍ، وتعرَّض عبد الله بن جحش ورفاقه لنقد ولوم عظيمين من أكثر الناس، وما زال الأمر كذلك حتى أنزل الله تعالى هاتين الآيتين، فخمَّس العيرَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان أوَّل خمس في الإسلام.
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ ﴾؛ أي المحرم، وكان شهر رجب ﴿ قِتَالٍ فِيهِ ﴾؛ أي عن القتال فيه، ﴿ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾ ذنبٌ عظيم، ووزر كبير، بيد أن الصد عن دين الله والكفر به تعالى، وكذا الصد عن المسجد الحرام، وإخراج الرسول منه والمؤمنين، وهم أهله وولاته بحق، أعظم وزرًا في حكم الله تعالى، ﴿ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ ﴾ صرف عن دين الله الإسلام، ﴿ وَكُفْرٌ بِهِ ﴾ كفر بالله تعالى، ﴿ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ مكة والمسجد الحرام فيها، ﴿ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ ﴾ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمهاجرون، ﴿ أَكْبَرُ ﴾ أعظم وزرًا، ﴿ عِندَ اللّهِ ﴾ كما أن شرك المشركين في الحرم، وفتنة المؤمنين فيه لإِرجاعهم عن دينهم الحق إلى الكفر بشتى أنواع التعذيب أعظم من القتل في الشهر الحرام، ﴿ وَالْفِتْنَةُ ﴾ الشرك واضطهاد المؤمنين ليكفروا، ﴿ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ مضافًا إلى كل هذا عزمهم على قتال المؤمنين إلى أن يردُّوهم عن دينهم إن استطاعوا، ﴿ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ ﴾ خوطب به المؤمنون، وانتقل عن خطاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى خطاب المؤمنين، وهذا إخبار من الله للمؤمنين بفرط عداوة الكفار، ومباينتهم لهم، ودوام تلك العداوة، وأن قتالهم إياكم معلق بإمكان ذلك منهم لكم، وقدرتهم على ذلك، ﴿ إِنِ اسْتَطَاعُواْ ﴾ استبعاد لاستطاعتهم.
﴿ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ ﴾، وهذان شرطان أحدهما معطوف على الآخر بالفاء المشعرة بتعقيب الموت على الكفر بعد الردة واتصاله بها، ورتَّب عليه حبوطَ العمل في الدنيا والآخرة.
وظاهرُ هذا الشرط والجزاء ترتُّب حبوط العمل على الموافاة على الكفر، لا على مجرد الارتداد، وهذا مذهب جماعة من العلماء، منهم: الشافعي، وقد جاء ترتب حبوط العمل على مجرد الكفر في قوله: ﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة:5]، وقوله: ﴿ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام:88]، وقوله: ﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف:147]، وقوله: ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الزمر:65]، والخطاب في المعنى لأمته، وإلى هذا ذهب مالك، وأبو حنيفة وغيرهما، يعني أنه يحبط علمه بنفس الردة دون الموافاة عليها، وإن راجع الإسلام، وثمرة الخلاف تظهر في المسلم إذا حجَّ، ثم ارتد، ثم أسلم، فقال مالك: يلزمه الحج، وقال الشافعي: لا يلزمه الحج.
﴿ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾: بطل أجرها فلا يثابون عليها لرِدَّتهم، وميراثه في بيت المال لا يرثه ورثته ﴿ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ ﴾ تركوا ديارهم خوف الفتنة والاضطهاد في ذات الله، ﴿ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ ﴾؛ لأنه ما دام المرء في قيد الحياة لا يقطع أنه صائر إلى الجنة، ولو أطاع أقصى الطاعة؛ إذ لا يعلم بما يختم له، ولا يتكل على عمله، لأنه لا يعلم أَقُبِل أم لا؟ وأيضًا فلأن المذكورة في الآية ثلاثة أوصاف، ولا بدَّ مع ذلك من سائر الأعمال، وهو يرجو أن يوفِّقه الله لها كما وفقه لهذه الثلاثة.
﴿ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾: لَما ذكر أنهم طامعون في رحمة الله، أخبر تعالى أنه متصف بالرحمة، وزاد وصفًا آخر، وهو أنه تعالى متصف بالغفران، فكأنه قيل: الله تعالى، عندما ظنوا وطمعوا في ثوابه، فالرحمة متحققة؛ لأنها من صفاته تعالى.
نزلت في عبد الله بن جحش وأصحابه، طَمْأَنهم الله تعالى أنهم غير آثمين، وأنه تعالى غفور لذنوبهم رحيم بهم، وذلك لإِيمانهم وهجرتهم وجهادهم في سبيل الله.
ولما أوجب الله تعالى الجهاد بقوله: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ﴾ [البقرة:61]، وبيَّن أن تركه سبب للوعيد، اتبع ذلك بذكر من يقوم به، ولا يكاد يوجد وعيدٌ إلا ويَتبعه وعد، وقد احتوت هذه الجملة على ثلاثة أوصاف، وجاءت مرتبة بحسب الوقائع والواقع؛ لأن الإِيمان أولها، ثم المهاجرة، ثم الجهاد في سبيل الله.
ولَمَّا كان الإِيمان هو الأصل أفرَد به موصول وحده، ولما كانت الهجرة والجهاد فرعين عنه أفردا بموصول واحد؛ لأنهما من حيث الفرعية كالشيء الواحد.