بلاغة التصوير القراني
وردت مشاهد وصور بلاغية بيانية عظيمة في القرآن الكريم تصور كيف تنبعث الحياة في الأرض بعد نزول المطر وكيف يمكن أن نتصور الأرض في موضع ككائن حي،
وفي موضع آخر ككائن مات ثم بعثت فيه الحياة،
وفي موضع آخر ككائن يهتز جزلا وطربا وينمو بالخيرات،
وككائن خاشع، وكمصدر رزق ونعمة .....
بدأت هذه الصور والمشاهد في سورة البقرة وتواصلت إلى أن انتهت في سورة الحديد:
{ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ .... } سورة البقرة ( 164 )
فيأتي هنا إحياء الأرض بعد نزول الماء ثم يليه خلق وبث الحياة في الدواب ومنهم البشر، والماء مصدر كل شيء حي.
{ .... لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا } سورة الفرقان ( 49 )
فالبلدة ميتة تحي بنزول المطر فتنبعث فيها حركة البهائم والبشر، ويشربون الماء فيتدفق في عروقهم.
{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا ...} سورة العنكبوت ( 63 )
تصوير الأرض ككائن كان حي ثم مات ثم انبعثت فيه الحياة مرة أخرى.
{ يُخْرِجُ ظ±لْحَىَّ مِنَ ظ±لْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ ظ±لْمَيِّتَ مِنَ ظ±لْحَىِّ وَيُحْىِ ظ±لْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا غڑ وَكَذَظ°لِكَ تُخْرَجُونَ } سوؤة الروم ( 19 )
هل من قادر على تلك الأمور العظيمة يحي ثم يميت ثم يحي الأرض والبشر والخلق كلهم بكلمة كن يحيهم ويميتهم كما يشاء ويفعل بهم ما يشاء. ولذلك قال الكثير من العلماء أن أسم الله الأعظم والذي إذا دعي به أجاب هو: الحي، وقال آخرون هو: الحي القيوم.
{ فَظ±نظُرْ إِلَىظ°ظ“ ءَاثَظ°رِ رَحْمَتِ ظ±للَّهِ كَيْفَ يُحْىِ ظ±لْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَاظ“ ... } سورة الروم ( 50 )
نعم رحمته تعالى وسعت كل شيء وعلى الرغم من الجحد والنكران والكفر والشرك والعصيان لم تنقطع هذه الرحمة العظيمة عن الخلق مؤمنهم وكافرهم، فانظر إلى عظمة الخالق الرحيم كيف يرفق بعباده وكيف هو أرحم بهم أكثر بمائة مرة من رحمة الأم بوليدها، ولو شاء لحبس الماء عنهم فيموتون ظمأ وجفافا وجوعا.
{ وَظ±للَّهُ ظ±لَّذِىظ“ أَرْسَلَ ظ±لرِّيَظ°حَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَظ°هُ إِلَىظ° بَلَدٍغ¢ مَّيِّتٍغ¢ فَأَحْيَيْنَا بِهِ ظ±لْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا غڑ كَذَظ°لِكَ ظ±لنُّشُورُ } سورة فاطر ( 9 )
نتكدر عندما تهب الرياح الموسمية مثيرة الزوابع الرملية وبعد سويعات أو دقائق تنزل الأمطار فنفرح بها ولا نستوعب الحكمة من تلك الرياح التي سبقت المطر. تصور هبوب الرياح باردها ودافئها، معتدلة وهوجاء، وكيف بعدها تسكن ويليها نزول المطر. هل من يستطيع أن يصور ذلك كله في مشهد من ثانيتين وهي مدة قراءة هذه الآية؟ بل وأضف إلى ذلك مشهد البعث والنشور، كل تلك المشاهد والصور في ثانيتين
{ وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } سورة يس ( 33 )
ألم تمر يوما بالصحراء وهي جافة ثم تمر بها مرة أخرى بعد نزول المطر بأيام؟
فماذا رأيت؟ نباتات وثمار خرجت بدون زراعة، فمن الذي أنبتها؟ الله العلي القدير. ثم انظر إلى المزارع يفلح الأرض ويبذر البذور ثم ينتظر نزول الغيث فتنزل الأمطار وتسقي الأرض ثم ينبت الزرع ويكبر وينمو ثم تبرز الثمار ويأتي وقت الحصاد لنأكل الحب والثمار. كل تلك المشاهد والأحداث في آية واحدة نقرأها في ثانية واحدة.
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ....} سورة فصلت ( 39 )
يا سبحان الخالق البارئ المصور، الأرض خاشعة مستكنة من الجفاف والظمأ تماما كإنسان أصابه الجفاف فارتمى على الأرض بدون حراك ينتظر إما الموت أو الفرج، ثم إذا ما نزل الغيث قام فرحا ليرتوي ثم إذا ما ارتوى اهتز طربا وبدأ فيه الحراك وعاد لصحته ونمى جسده، والأرض كالإنسان تهتز وتطرب وتنمو جزلا وفرحا. ما أعظمها من مشاهد كثيرة جدا والله لا تعد ولا تحصى في علم الكلام والبلاغة ولا في الأفلام وغيرها ، في نصف آية.
{ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ...} سورة الجاثية ( 5 )
ودعونا لحظة من تشبيه الأرض بالموت ثم الحياة فلقد تكرر معنا المشهد و لا نستطيع معه إلا الإجلال والإكبار، ولكن المشهد ارتبط بمشهد أخر عظيم ألا وهو الأرزاق، هنا الماء هو الأرزاق فالماء مصدر كل شيء حي وبدونه لا معنى للحياة ولا طعم ولا لون لأي من أموال وكنائز الدنيا كلها لا تساوي جرعة ماء لظمأن تائه في الصحراء، فالماء إذا هو الرزق نفسه ولا تعادله في قيمته وأهميته أي أرزاق أخرى. (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ .....) سورة الأنبياء ( 30 )
{ ... رِزْقًا لِلْعِبَادِ غ– وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا غڑ كَذَظ°لِكَ الْخُرُوجُ } سورة ق ( 11 )
ويتكرر معنا المشهد العظيم نزول الغيث رحمة بالعباد والمخلوقات، ومنه يأتي الزرق فتعود الحياة إلى البلدة المهجورة والتي ماتت من شدة الجفاف. وهكذا يخرج الخلق مرة أخرى لا ليهتزوا طربا وفرحا ولكن ليقفوا أمام الواحد القهار موقف الحشر والحساب. فهل من متعظ؟
{ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا غڑ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } سورة الحديد ( 17 )
بعد كل هذه المشاهد والآيات والصور هل تتعظون وهل تعقلون؟ ومن حكمة الله تعالى وعظمته سبقت هذه الآية الكريمة آية أخرى عظيمة جدا كان يخر لها صعقا العلماء لفهم معانيه العظيمة،
وكذلك المتكبرون والمعرضون عن الحق من الجبابرة والعتاهية لخوفهم من العقاب، وهي
{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ......} سورة الحديد ( 16 )
وهكذا يختتم الله تعالى تلك المشاهد فجعل أخرها في سورة الحديد لعل النفوس تتعظ وتعود إلى خالقها وبارئها |
|
|
|