همسات في آذان الصائمين
الحمد لله رب العالمين، ولاعدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذه همسات رشيقة، وعجالات أنيقة، اسمها يخبر عن رسمها، وفحواها يشعر بمعناها، أحببت أن أهمس بها في أذن كل صائم لعله أن ينتفع بها، فيعلو شأنه، ويرتفع مقامه عند ربه – سبحانه وتعالى -:
الهمسة الأولى: دع عنك الكسل:
انهض فقد بدأ السباق .. انهض قبل أن تجد نفسك في المركز الأخير.
انهض إن كنت تطمح أن تكون من الفائزين يوم توزع الجوائز يوم العيد.
دع عنك الكسل وإن كان طعمه أحلى من العسل، فإن في آخره علقماً ينسيك ما كان فيه من حلى، ما هي إلا أياماً معدودة، وساعات محسوبة، تمر مر السحاب، وينفض الموسم، وتودع شهر الطاعات، وموسم البركات، ومضاعفة الأجور والحسنات.
إن لذة الكسل ساعة وتزول، وتعقبها حسرة لا تزول، ونصب الطاعة ساعة وتزول، وتليها فرحة لا تزول!
اسأل صاحب الطاعة بعد انقضائها هل بقى من تعبها شيء؟ واسأل نفسك هل بقى من لذة الكسل لك شيء؟ والعاقبة للتقوى.
لا تجعل رمضان كرجب وشعبان سواء، فإن الله لم يجعلهن سواء.
انظر إلى الصالحين، ونافسهم في الخيرات ولا تقل: أنا أفضل من فلان وفلان.
لا تدع باباً للخير إلا وتطرقه، نافس على الصف الأول، تصدق، أكثر من ذكر الله.
لا تترك من قيام الليل ولا ركعة، خصص وقتاً لقراءة القرآن ولا تكتفي منه بالصفحة والصفحتين، ولا بالجزء والجزئين، فإن هناك من يختمه في رمضان عشر مرات، فانهض واستمد العون من الله، واسأله القبول وألح في الدعاء.
الهمسة الثانية: أي عاقل يفرط في هذا الكنز؟
عن معاذ – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟)) قالوا: بلى يارسول الله!! قال: ((ذكر الله))1.
وفي الترمذي أن رجلاً قال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، وأنا قد كبرت، فأخبرني بشيء أتشبث به!! قال: ((لايزال لسانك رطباً بذكر الله – تعالى –))2.
وفي البخاري عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت))3، وعن معاذ مرفوعاً: ((ما عمل آدمي عملاً أنجى له من عذاب الله – عز وجل – من ذكر الله – تعالى -))4.
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((من قال سبحان الله وبحمده في يوم مئة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر))5.
وفي مسلم: عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لأن أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ أحب إلي مما طلعت عليه الشمس))6.
سمعنا هذه الأحاديث كثيراً ولكن ماذا عملنا؟ ألسنا مصدقين بها؟ بلى .. إذن لماذا التفريط؟
أليس من الحكمة أن نتزود بالحسنات الآن قبل أن نأتي يوم الحساب نعض أصابع الندم، ونتمنى الحسنة والحسنتين؟
الهمسة الثالثة: عليك بالدعاء:
احرص على استغلال الأوقات والأحوال التي يستجاب فيها الدعاء، ومن تلك الأحوال حال الصيام، خصوصاً إذا كان وقت دعاءك في وقت من أوقات الإجابة كما بين الأذان والإقامة، وآخر ساعة من نهار الجمعة، أو في حال من أحوال الإجابة كحال السجود، فإن مظنة الإجابة عند ذلك تكون أكبر، وربما تدعو دعوة واحدة تخرج منك لحظة صفاء وتجرد، وتوجه وابتهال، وانكسار بين يدي الله – عز وجل – قد تحول مجرى حياتك تحولاً جذرياً، وتنقلك من دركات الشقاء إلى مراتب السعادة، وتعتق بها رقبتك من النار، فإن لله في كل ليلة من ليالي رمضان عتقاء من النار كما جاء في الحديث.
إذن فلنجتهد في الدعاء، ولعل من المناسب هنا أن نذكر بأهم أدب من آداب الدعاء وهو البدء والختام بحمد الله والثناء عليه، ثم الصلاة والسلام على رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وتخير من الدعاء أعمه وأجمعه، وأجمع الأدعية هي الأدعية التي كان يدعو بها الرسول – صلى الله عليه وسلم -، ويمكن معرفتها عن طريق كتب السُنّة، كما ندلك على اقتناء كتيب للشيخ سعيد بن علي بن وهف القحطاني جمع فيه أدعيه كثيرة من الكتاب والسنه وهو بعنوان "الدعاء من الكتاب والسنة".
الهمسة الرابعة:احفظ عليك هذا:
الصيام عن الطعام والشراب هو من أسهل أنواع الصيام إذا ماقورن بصيام الجوارح، فليس من السهل أن يتمكن كل أحد من حفظ لسانه عن الكلام في أعراض الناس، أو الهمز واللمز، أو السباب والشتم، وليس من السهل على كل أحد أن يحفظ بصره فلا ينظر إلى ما حرّم الله، أو يحفظ سمعه فلا يسمع ما حرّم الله.
وإذا كان الصيام عن الطعام والشراب مأمور به العبد في شهر الصوم فقط؛ فإن صيام الجوارح مأمور به في كل وقت، والأحاديث في ذلك كثيرة منها قول النبي – صلى الله عليه وسلم – لمعاذ – رضي الله عنه – لما سأله: أو مؤاخذون بما نقول يا رسول الله؟ قال: ((ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم))7، وقوله – صلى الله عليه وسلم -: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً))8.
والآيات والأحاديث في حفظ البصر وحفظ السمع عما حرم الله مشهورة ومعلومة، ولكن هلا دربنا أنفسنا ونحن في مدرسة الصوم كيف نسيطر على جوارحنا، وكيف نكبح جماحها، ونلوي زمامها حتى لا تنزلق بنا في مهاوي الردى، وبذلك نكسب من هذا التدريب عادة حميدة نسير عليها فيما تبقى من أعمارنا حتى نلقى ربنا؟
الهمسة الخامسة: احرص على أداء العمرة:
فعن أبي هريرة – رضي اله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة))9، وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((عمرة في رمضان تعدل حجة (أو حجة معي))10، هذه من بركات هذا الشهر المبارك، ونفحات الرب – تبارك وتعالى – التي يمتن بها على عباده في رمضان، والسعداء هم الذين يتعرضون لهذه النفحات، ويستفيدون منها.
الهمسة السادسة: متى إن لم يكن في رمضان؟
صعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – درجات منبره الثلاث، وكان في كل درجة يقول: آمين، فتعجب الصحابة – رضوان الله عليهم – وسألوه، فقال – عليه الصلاة والسلام -: ((أتاني جبريل فقال: يا محمد رغم أنف عبد أدرك رمضان ولم يغفر له قل آمين، فقلت: آمين، ثم قال: رغم أنف عبد أدرك والديه أحدهما أو كلاهما فلم يدخلاه الجنة قل:آمين فقلت: آمين، ثم قال: رغم أنف عبد ذُكرْتَ عنده فلم يصل عليك قل: آمين فقلت: آمين))11.
والشاهد في موضوعنا قوله "رغم أنف عبد أدرك رمضان ولم يغفر له" كأن جبريل يستغرب كيف يكون هذا، لذا فهو يدعو على ذلك الشقي المحروم الذي فرط في فرصة المغفرة خلال هذا الشهر المبارك حتى انقضى ومضى، ولم يتعرض فيه لنفحة من نفحات الرب – تبارك وتعالى – والتي كانت واحدة منها كفيلة بغفران ذنوبه، فلا يحرم بركة رمضان إلا محروم، ظالم لنفسه، كيف لنا والفرص كلها سانحة للعودة إلى الله، والتوبة والمغفرة من الذنوب لاسيما والشياطين قد صفدت، والأجور قد ضوعفت، وأبواب الجنة قد فتحت، وأبواب الجحيم قد أغلقت، فيه ليلة خير من ألف ليلة، لله فيه في كل ليلة عتقاء من النار، ومن صامه إيماناً واحتساباً غفر له ماتقدم من ذنبه، فهل بعد هذا الخير عذر لمعتذر؟ اللهم لا.
الهمسة السابعة: يا ضعيف الإرادة قد فضحك رمضان:
في رمضان تقوى إراداتنا، وتشتد عزائمنا، ونعمل ما كنا عاجزين عنه في غير رمضان ومن ذلك: حفظ الجوارح وعلى رأسها اللسان والبصر عن الكلام فيما حرم الله، أو النظر إلى الحرام، وكذلك نؤدي العبادات والطاعات ما كنا عاجزين عن أداء ولو جزء يسير منه، ومن ذلك قيام الليل مثلاً، ففي حين أننا نقضي مع الإمام كل ليلة ما يقارب الساعة والربع في صلاة العشاء والتراويح، وتزداد إلى ثلاث ساعات في العشر الأواخر ما بين قيام أو تهجد؛ نجد أننا غير قادرين على ذلك في غير رمضان فما السبب؟ إنها الإرادة والعزيمة، فمتى ما أراد الإنسان أن يعمل عملاً فإن بإمكانه أن يعمله، ومتى ما أوهم نفسه أنه لا يستطيع فلن يعمله.
الهمسة الثامنة: لا يكن صومك عادة:
من الناس من يصوم رمضان لأنه اعتاد فعل ذلك منذ الصغر، أو لأن المجتمع حوله يمسك عن الأكل والشرب خلال هذا الشهر فاعتاده، فهو يفعله آلياً دون أن يفكر أو يتأمل أو يستحضر في ذهنه وفكره عظم هذه العبادة، وأنه دخل في عباده فرضها عليه ربه، وأنه يتقرب بها طاعة له، وطمعاً في مغفرته، ورغبة فيما أعده للصائمين من الأجر والمثوبة،
فلا يستحضر هذه المعاني أبداً، وفئة أخرى تصوم وهي كارهة للصوم – والعياذ بالله – ولا ترى فيه سوى أنه مشقة، وعناء على النفس، فتجدهم يعدون الساعات والأيام منتظرين خروج الشهر، فالمسألة إذن تدور على النية، لذا فإننا نجد أن الله – عز وجل – رتب الأجر العظيم والمثوبة الكبيرة على من صامه إيماناً واحتساباً.
الهمسة التاسعة: تفرغ وقلل من هذه الأمور:
مما يروى عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – أنه كان إذا رأى هلال رمضان قال: "اللهم أهله علينا بالسلامة من الأسقام، وبالفراغ من الأشغال، ورضنا فيه بالقليل من النوم والطعام"، دعوات جليلات، قليلات الكلمات، ولكنهن عظيمات المعنى، فهو – رضي الله عنه – يدعو الله – عز وجل – أن يسلمه من الأمراض، وأن يمن عليه بالفراغ من أشغال الدنيا، وأن يقنعه بالقليل من النوم والطعام لكي يتفرغ للعبادة في هذا الشهر المبارك الذي عرف فضله وقدره وأجره؛ لأن المريض لا يقوى على الصيام ولا القيام، ولا الذكر ولا قراءة القرآن، فيحرم الخير الكثير المتاح في هذا الشهر، وكذا صاحب الأعمال الكثيرة والأشغال المتواصلة يمضي عليه الوقت سريعاً وهو غارق في مشاغله، وأيضاً الصحيح السليم الذي يكثر في هذا الشهر من المأكولات فيمتلئ بها بطنه، فتصعب عليه الحركة، ويتعبه القيام مع المصلين في الصف في قيام الليل، والذي يمضي جل وقته في النوم يحرم نفسه تلاوة القرآن، والتزود من معينه الذي لا ينضب من الحسنات، فكل حرف منه بحسنة، والحسنة بعشر أمثالها.
الهمسة العاشرة: مضى رمضان فهل من وقفة محاسبة:
بالأمس استبشرنا بهلال شهر رمضان، واليوم ودعنا أياماً كثيرة من الشهر، أيام مرت كطرفة عين، وستمر بقية الأيام وربما بسرعة أكبر، ونفاجأ بأن الشهر الكريم قد ودع ولن يعود إلا بعد عام، وقد ندركه عندما يعود وقد لا ندركه، فربما يكون هذا العام آخر عهدنا برمضان، والأعمار بيد الله، أفليس من المناسب أن نقف مع أنفسنا في لحظة صدق، ونفكر: ماذا قدمنا من أعمال فيما مضى من أيام، كم قرأنا من القرآن حتى الآن؟ كيف كانت محافظتنا على صلاة الجماعة؟ كيف كانت محافظتنا على صلاة التراويح؟ بر الوالدين؟ صلة الرحم؟ الصدقة؟ غض البصر؟ حفظ السمع؟ إفطار صائم؟ مساعدة المحتاجين؟ الدعاء للمجاهدين؟ ..الخ من أعمال البر والخير التي تضاعف أجورها في رمضان؟
فمن وجد في نفسه خيراً فليحمد الله وليستزيد، ومن وجد غير ذلك فليتدارك نفسه، وليلحق بالركب، فما زال في الزمن بقية، والفرصة قائمة، فليشمر وليعزم وليتقوى بالصبر والاحتساب حتى لا يندم إذا ما رحل رمضان وهو ما زال مقيم على الكسل والتقصير.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يمد في أعمارنا في طاعته، وأن يبارك في أوقاتنا، وأن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يجعل عملنا في رضاه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين |
|
|
|