أرخِ ثم شدِّد
وهي طريقة التشريع الإلهي أيضا في بعض ملامحه يصفها ابن القيم فيقول :
" فينقل عباده بالتدريج من اليسير إلى ما هو أشد منه لئلا يفجأ هذا التشديد بغتة فلا تحمله ولا تنقاد له ، وهذا كتدريجهم في الشرائع شيئا بعد شيء دون أن يؤمروا بها كلها وهلة واحدة ، وكذلك المحرمات ، ومن هذا أنهم أمروا بالصلاة أولا ركعتين ركعتين ؛ فلما ألفوها زيد فيها ركعتين أخريين في الحضر ، ومن هذا أنهم أُمروا أولا بالصيام وخُيِّروا فيه بين الصوم عينا وبين التخيير بينه وبين الفدية ؛ فلما ألِفوه أُمروا بالصوم عينا ، ومن هذا أنهم أُذِن لهم بالجهاد أولا من غير أن يوجبه عليهم ؛ فلما توطَّنت عليه نفوسهم وباشروا حسن عاقبته وثمرته أُمِروا به فرضا ، وحكمة هذا التدريج : التربية على قبول الأحكام والإذعان لها والانقياد لها شيئا فشيئا ، وكذلك يقع مثل هذا في قضائه وقدره مقدر على عبده بل لا بد منه اقتضاه حمده وحكمته ، فيبتليه بالأخف أولا ثم يرقيه إلى ما هو فوقه حتى يستكمل ما كتب عليه منه " .
والمشاهد أن كثيرا من المرضى يشاهدون من منَّ الله عليهم بالعافية والسمو في آفاق المتعة الإيمانية ، فيسعون في إدراكهم ، ويحاولون مطاولة النجم في علاه بقفزة واحدة ، وعندما يفشلون يرجعون خائبين تاركين المحاولة ويائسين من الشفاء ، ولو أنهم صعدوا السلَّم درجة درجة ، وبدؤوا بالانتهاء عن ما حرَّم الله ، ثم ساروا إلى الفرائض فأتموها ، وأتبعوا ذلك بالنوافل التي لا تشق عليهم ، لوجدوا في نهاية الطريق ما وجد هؤلاء ، ولكنهم قوم يستعجلون.
أيها المتعجِّلون!! أنتم لا ترون سوى قمة الهرم ولكنكم لا تلمحون ما بُذِل فيه من عرق وجهد ، أنتم لا تبصرون إلا اللمحة الأخيرة واللقطة المبهجة والمشهد السعيد ، أما المسلسل الطويل من المجاهدة والصراع والمثابرة والكفاح فما خطر ببالكم قط ، لذا طمعتم في نيل العلا برقدة في الفراش والغرق في أماني الحالمين ، وهذا محال في سوق الآخرة.
ولعل هذا ما قصده كلا من ثابت البناني وعتبة الغلام وهما يرويان قصة كفاحهما المتشابه بل المتطابقة ؛ حتى عبَّر كلاهما عنها بنفس الكلمات تماما ، فقال كل منهما على حدة :
" كابدتُ الصلاة عشرين سنة ، وتنعَّمت بها عشرين سنة
وهذه اللذة والتنعم بالخدمة إنما تحصل بالمصابرة والتعب أولا ، فإذا صبر المريض وصدق في صبره أفضى به صبره إلى اللذة كما قال أبو زيد : " ما زلت أسوق نفسي إلى الله وهي تبكي حتى سقتها وهي تضحك"