الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله
أنا- يا ابنتي- رجل خبرت الحياة وخبرتني، وعاركت الأيام وعاركتني، وصارعت الليالي وصارعتني، وسحت في الديار شرقها وغربها، وتعاملت مع النفوس شريفها ووضيعها، فخذي مني نصيحة أب مشفق، يحب لك الخير ويتمنى لك الرفعة، نصيحة من يرى كرامتك وشرفك ورفعتك أعز وأغلى عليه من نفسه التي بين جانحتيه.
إي والله- يا بنتي- هذا هو شعور أي أب نحو ابنته، فخذيها واقبليها وضعيها نصب عينيك، لأني أرى سهاماً نحوك مرصودة قد أصابت حرابها، وأرى شباكاً حولك منصوبة قد امتلأت فخاخها، وأرى التراءي بالرذيلة قد جرت ثيابها، وأرى البراءة من الفضيلة قد اتسع خرقها، وأرى حولك قلوباً من الرحمة قد اقفرت، وأرى أمامك عيوناً عن البكاء قد جمدت، وأرى بوناً شاسعاً بين دخائل القلوب وملامح الوجوه، وأرى كذب الأسماء عن حقائقها، فالإجرام والفجور فتوة، والتبذل والتفسخ حرية، والرذيلة فناً، والربا فائدة، وأم الخبائث- الخمر- مشروباً روحياً، والانحلال حضارة، ألا ساء ما يزرون،
كل هذا- يا ابنتي- لكي يستمتع بجسدك الطاهر ودمائك النقية ذئاب، بك متربصة، قد سخروا أقلاماً غلب جهلها على علمها، لبست لك ثياب النصح والإرشاد، فأقبلوا يخلطون بالبيان شبهاً، وبالدواء سماً نقاعاً، وبالسبيل الواضح جرداً مضلاً، فالجلود جلود الضأن، والقلوب قلوب الذئاب، فترى وتسمع منهم حشفاً وسوء كيله، قد بيتوا أمراً تكالبوا عليه مجمعين على غير هدى ولا مثال سابق حتى وقع الحافر على الحافر، ألا ساء ما يزرون.
إنهم يخطون نحوك خطواتهم الأولى ثم يدعونك تكملين الطريق، فلولا لينك ما اشتد عودهم، ولولا رضاك ما أقدموا، أنت فتحت لهم الباب حين طرقوا فلما نهشوا نهشتهم صرخت "أغيثوني "، ولو أنك أوصدت دونهم أبوابك، ورأوا منك الحزم والإعراض لما جرؤ بعدها فاجر أن يقتحم السوار المنيع، لكنهم صوروا لك الحياة حباً في حب، وغراماً في غرام، وعشقاً في عشق، فلا تسير ولا تصح الحياة بدون هذا الحب الجنسي الذي يزعمون، وبه يتشدقون قالوا: لابد من الحب الشريف العذري بين الشاب والفتاة، والله يقول( فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33))) فأي حب هذا الذي يزعمون، وأي شرف هذا الذي يتشدقون، (( قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ))
لا- يا ابنتي- لا تصدقيهم، ولا تصدقي الذئب، لا تصدقيه بأنه يطلب منك الحديث فقط، أتراه يكتفي به، لا، سيطلب المقابلة، فهل يكتفي بهذا؟ لا، سيطلب النظر، ثم العناق، وثم وثم.،.
فما حديث الحب العذري الشريف إلا شهوة لم تقض، ورغبة لم تتحقق
وما دون ذلك وهم وضلال وكذلك وتدليس على النفس، إن حديث الحب العذري بين شاب وفتاة خرافة لا تروج شوقه إلا على المجانين والمراهقين وأهل الدياثة والخنا.
فلا تستمعي بما زخرفه الشعراء في أمثال، عنترة وعبلة، وقيس وليلى، وجميل وبثينة، والفرزدق والنوار، وكثير وعزة، وغيرهم.
ولا بما زوره الأدباء في مجدولين، وبول وفرجيني، وكرازبيلا، والأجنحة المتكسرة، فما هذا إلا صورة من صور الرغبة في الاتصال الجنسي لم تجد طريقها إلى التنفيذ، إنها غريزة النوع فلا يرويها إلا ما يتم به، هذه حقيقة ومن أنكرها وجد الرد عليه داخل نفسه، ففي كل نفس الدليل على أنها حقيقة لا سبيل إلى إنكارها، و"ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما" أخرجه البخاري برقم (5233)،، فالحب العذري الذي يزعمون جوع جنسي، فهل يصدق الجائع إذا حلف بأغلظ الأيمان أنه لا يريد من المائدة الشهية إلا أن ينظر إليها، ويشم ريحها من على البعد فقط، كي ينظم في وصفها ا لأشعار ويصوغ القوافي.
فالضحية أخيراً أنت- يا ابنتي- يأتي الشاب فيغوي الفتاة، فإذا اشتركا في الإثم ذهب هو خفيفاً نظيفاً، وحملت هي ثمرة الإثم في حشاها، ثم يتوب هو فينسى المجتمع حوبته، ويقبل توبته، وتتوب هي فلا يقبل لها المجتمع توبة أبدا، وإذا أراد هذا الشاب الزواج أعرض عن تلك الفتاة التي أفسدها مترفعا عنها، ومدعيا أنه لا يتزوج البنات الفاسدات، ولسان حاله يقول: أميطوا الأذى عن الطريق؟ فإنه من شعب الإيمان،
أين ما أخذه على نفسه من وعود؟ أين ما قطعه من عهود؟ كتبت إحداهن وكانت سليلة مجد ومن بيت عز تستعطف الذئب بعد أن سلبها عذريتها،
فقالت:
"لو كان بي أن أكتب إليك لأجدد عهداً دارساً أو وداً قديماً ما كتبت سطراً، ولا خططت حرفاً، لأني لا أعتقد أن عهداً مثل عهدك الغادر، ووداً مثل ودك الكاذب، يستحق أن أحفل به فأذكره، أو آسف عليه فأطلب تجديده، إنك عرفت حين تركتني أن بين جنبي ناراً تضطرم، وجنيناً يضطرب، تلك للأسف على الماضي، وذاك للخوف من المستقبل، فلم تبل بذلك، وفررت مني حتى لا تحمل نفسك مؤونة النظر إلى شقاء أنت صاحبه، ولا تكلف يدك مسح دموع أنت مرسلها، فهل أستطيع بعد ذلك أن أتصور أنك رجل شريف لا بل لا أستطيع أن أتصور أنك إنسان، لأنك ما تركت خلة من الخلال المتفرقة في نفوس العجماوات والوحوش الضارية إلا جمعتها في نفسك، وظهرت بها جميعها في مظهر واحد، كذبت علي في دعواك أنك تحبني وما كنت تحب إلا نفسك، وكل ما في الأمر أنك رأيتني السبيل إلى إرضاء نفساً، فممرت بي في طريقك إليها، ولولا ذلك ما طرقت لي باباً، ولا رأبت لي وجهاً، خنتني إذا عاهدنني على الزواج، فأخلفت وعدك ذهاباً بنفسك أن تتزوج امرأة مجرمة ساقطة، وما هذه الجريمة ولا تلك السقطة إلا صورة نفسك، وصنعة يدك، ولولاك ما كنت مجرمة ولا ساقطة، فقد دفعتك - جهدي- حتى عييث بأمرك، فسقطت بين يديك سقوط الطفل الصغير، بين يدي الجبار الكبير، سرقت عفتي، فأصبح ذليلة النفس حزينة القلب، أستثقل الحياة وأستبطيء الأجل، وأي لذة في العيش لامرأة لا تستطيع أن تكون زوجة لرجل ولا أماً لولد! بل لا تستطيع أن تعيش في مجتمع من هذه المجتمعات البشرية إلا وهي خافضة رأسها، ترتعد أوصالها، وتذوب أحشاؤها، خوفاً من تهكم المتهكمين، سلبتني راحتي لأني أصبحت مضطرة بعد تلك الحادثة إلى الفرار من ذلك القصر... وتلك النعمة الواسعة وذلك
العيش الراغد إلى منزل لا يعرفني فيه أحد... قتلت أبي وأمي، فقد علمت أنهما ماتا، وما أحسب موتهما إلا حزناً لفقدي، ويأساً من لقائي، قتلتني لأن ذلك العيش المر الذي شربته من كأسك، وذلك الهم الذي عالجته بسببك، قد بلغا مبلغهما من جسمي ونفسي فأصبحت في فراش الموت كالزبالة المحترقة... فأنت كاذب خادع ولص قاتل، ولا أحسب أن الله تاركك بدون أن يأخذ لي بحقي منك... " .