كان القتال عنيفا متصلا مثل اختبارا لكل حواس المقاتلين . وكان مذاق المعركة نفسه يحوم في الجو . أما الآن فكل شيء انتهى ، ولم يبقَ سوى إسعاف الجرحى ودفن الموتى ، أو " تسوية الأمر قليلا " بتعبير جندي فكه تابع لوحدة من وحدات الدفن . وكان مطلوبا الكثير من " التسوية " ، فقد ترامت أشلاء الجنود والخيل على مد البصر خلال الغابات وبين الأشجار التي مزقتها القنابل . وبين تلك الأشلاء كان يجوس حملة النقالات يلمون الجنود القلائل الذين بدت عليهم علامات الحياة وينقلونهم إلى مكان آخر . وقد مات الكثير من الجرحى جراء الإهمال خلال الجدل حول حقهم في الاستجابة لاحتياجاتهم ، فواحد من نظم الجيش يقول إن على الجرحى أن ينتظروا !
ذلك أن خير وسيلة للاعتناء بهم هي كسب المعركة . والواجب الإقرار بأن النصر مزية جلية لرجل في حاجة إلى الرعاية إلا أن كثيرين يقضون نحبهم دون أن يفيدوا منه بعد نيله . وجمع الموتى في عُصَب من عشرات وعشرينات ورصوا صفوفا بينما كانت تُخَد الأخاديد لمواراتهم . ودفن بعض الموتى الذين وجدوا في أماكن قصية جدا من نقاط التجميع هذه حيث سقطوا . ولم يبذل سوى جهد قليل للتعرف على الموتى مع أنه في غالب الحالات عرفت أسامي المنتصرين ودونت في قوائم ، ذلك أن أوامر مفصلة أعطيت لفرق الدفن بالتقاط الموتى من الأرض التي " حصدتها " مثلما تلتقط فضلات الزرع . أما قتلى العدو فكان عليهم القناعة بحصرهم فحسب ، وقد نالوا من هذا الحصر كفايتهم : كثيرون منهم حصروا مرارا ، ودل حصرهم المجمل _ مثلما ذكر بعد ذلك في التقرير الرسمي للقائد المنتصر _ على الأمل أكثر مما دل على العدد الحقيقي . ووقف رجل في زي ضابط من جيش الاتحاد متكئا إلى جذع شجرة على مسافة دانية من البقعة التي أقامت فيها إحدى فرق الدفن " معسكرها المؤقت للموتى " . وكان بيناً من أخمص قدميه إلى رأسه أنه يستجم من فرط إعيائه إلا أنه كان يتلفت قلقا يمنة ويسرة . كان بيناً أنه قلق النفس . لعله كان حائرا في أي وجهة يمضي ! ولم يكن محتملا أن يطيل مكوثه حيث هو ، فأشعة الشمس الغاربة كانت تسللت حمراء من فرجات الغابة ، والجنود المنهكون يتركون عملهم لذلك اليوم ، ولا يمكنه مبيت الليل هناك وحيدا بين الموتى . تسعة من عشرة جنود كنت تلقاهم بعد معركة ما يسألون عن الطريق إلى إحدى وحدات الجيش كأن من يسألونه يعرف تلك الطريق . ولا ريبة في أن هذا الضابط تائه . وبعد أن يُجِم نفسه شيئا سيقفو إحدى وحدات الدفن المنسحبة للإفادة من معرفتها الطريق . وبعد انصراف الجميع ؛ مضى قدما في الغابة جهة الغرب الملون بحمرة الشفق ، فخضب شعاع الغروب محياه بلون الدم . ودل المظهر الواثق الذي كان يوسع به خطاه على أنه يسير في أرض مألوفة . لقد استعاد اتجاهه الصحيح . ولم يكترث بالموتى على ميمنته وميسرته أثناء سيره ، ولم يكترث أيضا بأنين خفيض يرجعه جندي بائس مصاب إصابة مؤلمة ، ولم تصل إليه حتى اللحظة فرق الإنقاذ ، وكان عليه أن يقضي ليلة لا راحة فيها تحت ظلال النجوم متلهفا لمن يؤنس وحشته . والحق ماذا كان في طوق ضابط أن يفعل وهو ليس جراحا ولا يحمل ماء ؟ وفي رأس
وادٍ قليل الغور ، مجرد منخفض من الأرض ؛ كانت مجموعة قليلة من الجثث ملقاة ، رآها ، فانعطف من مساره
وهرول إليها . وبعد أن نظر إلى كل جثة نظرة سريعة ؛ توقف في النهاية عند واحدة ملقاة على مسافة قليلة من الجثث الأخرى قرب مجموعة شجيرات . دقق النظر فيها . بدا أنها تتحرك ، فانحنى ووضع يده على وجهها فصرخت ! كان الضابط هو النقيب داوننج مادوِل العامل في فوج مشاة تابع لولاية ماسا شوستس، وهو ضابط
مقدام ذكي وإنسان شريف . وكان في الفوج أخوان يسميان هالكرو . الأول كافال والثاني كريد هالكرو . وكافال رقيب في سرية النقيب مادول . وكان الرجلان ( الرقيب والنقيب ) صديقين ودودين . وألف الاثنان أن يكونا معا بقدر ما يسمح به تفاوت الرتبة وتباين الواجبات واعتبارات النظم العسكرية . والحق أن الاثنين ترعرعا معا منذ الطفولة ، وليس سهلا قطع ما ألفه القلب فجأة . ولم يكن في كافال شيء من الروح العسكرية في ميله أو في مزاجه غير أن فكرة الانفصال من صديقه لم تكن مستحبة لديه ، فالتحق بالسرية التي كان مادول ملازما ثانيا فيها . وصعد كل واحد منهما درجتين في الرتبة إلا أن الفرق بين الضابط الأعلى الآمر والضابط الأدنى المأمور
عميق وسيع ، فتم الحفاظ على الصلة القديمة بمشقة ومنازعات . وكان كريد هالكرو ( شقيق كافال ) رائد الفوج ،
وهو رجل متهكم منقبض النفس بينه وبين النقيب مادول نفور طبيعي غذته الظروف وقوته حتى صار عداوة شديدة . ولا ريب في أنه لولا ما كانت توفره علاقتهما المتبادلة مع كافال من كوابح لحاول كل واحد من هذين الوطنيين حرمان بلدهما من خدمات الآخر . وكان الفوج يقوم بدور موقع متقدم على بعد ميل من الجيش الرئيس
في مستهل المعركة صباح ذلك اليوم ، فهوجم وحوصر تقريبا في الغابة إلا أنه تشبث بموقعه في عناد . وذهب الرائد هالكرو إلى النقيب مادول في إحدى فترات توقف القتال ، وتبادل الاثنان التحايا الرسمية ، ثم قال الرائد :
يا حضرة النقيب ! يأمرك العقيد بدفع سريتك إلى رأس هذا الوادي والمحافظة على مكانك فيه حتى استدعائك .
بالكاد أحتاج إلى إعلامك بما تنطوي عليه هذه الخطوة من خطورة ، وأحسب _ إذا رغبت _ أنك تستطيع تحويل الأمر إلى الملازم الأول في سريتك ، ومع هذا فأنا لم أخول صلاحية إيجاد البديل . هذا اقتراح من عندي ليس له أي صفة رسمية .
فرد النقيب مادول على هذه الإهانة القاتلة في برود : سيدي ! أدعوك للمشاركة في هذه المهمة . ضابط فوق حصان سيكون هدفا واضحا للعدو ، ورأيي من قديم أن مماتك خير من محياك !
والحق أن فن البراعة في الرد على الآخرين قد شجع في دوائر العسكر منذ مستهل 1862 .
وبعد ربع ساعة طردت سرية النقيب مادول من موقعها في رأس الوادي بعد أن خسرت ثلث عددها ، وكان الرقيب هالكرو بين من سقطوا في القتال . وفي الحال أجبر الفوج على العودة إلى الخط الرئيس في الجبهة . ولما توقفت المعركة كان على مسافة أميال من القوات الرئيسة . والنقيب الآن يقف عند مساعده وصديقه . لقد أصيب الرقيب هالكرو إصابة قاتلة ، وكانت ملابسه مشوشة على جسده ، وبدا أنها مزقت بعنف كاشفة عن بطنه ، ونزعت بعض أزرار سترته وألقيت على الأرض قريبا منه ، ونثرت حوله قطع من ملابسه الأخرى ، ونزع حزامه الجلدي وبدا جليا أنه سحب من تحته وهو ملقى على الأرض ، ولم يكن ثمة نزف دم كثير ، والجرح الوحيد المرئي كان فتحة واسعة مشرشرة الحواف في البطن يشوهها التراب وبالي أوراق الشجر وتبرز منها حلقة معي صغير . لم يشهد النقيب مادول في حياته كلها مثل هذا الجرح . ولم يستطع تخمين كيفية حدوثه ولا تبيان الملابسات المصاحبة لذلك الحدوث والتمزيق الغريب للملابس ونزع الحزام وتشويه البشرة البيضاء . ركع وتفحص الجسد عن كثب ، وحين قام سرح ناظريه في نواحٍ مختلفة كأنه ينقب عن عدو فرأى _ على خمسين ياردة فوق رأس تل خفيض قليل الشجر _ عدة أجسام سود تتجول بين الجثث . كانت قطيع خنازير ، وقف أحدها وظهره إلى الضابط ، وكتفاه باديتا الارتفاع ، وقائمتاه الأماميتان فوق جثة إنسان أما رأسه فكان منخفضا لا تراه العين . وبدت سلسلة عموده الفقري الكثة الشعر سوداء في حمرة الغروب . أشاح النقيب مادول بعينيه وثبتهما على ما كان يوما خليله . الإنسان الذي قاسى كل هذه الألوان من التمثيل الوحشي بجسمه ما فتىء حيا ، ويحرك أطرافه بين لحظة ولحظة ، ويتأوه مع كل تنفس . ويحدق في وجه صاحبه تحديقا خاليا من أي معنى ، وإذا مسه صاحبه يصرخ . وكان لفظاعة ألمه أحدث حفرا في الأرض التي يرتمي عليها ، وقد ملئت يداه المتقبضتان بالورق والأعواد الطرية والتراب ، وما كان يقدر على الكلام البين ، ويستحيل معرفة إن كان يعي شيئا سوى الألم . كان وجهه يعبر عن التضرع ، وكانت عيناه مفعمتين بالرجاء . ترى رجاء ماذا ؟ لم يكن ممكنا الخطأ في قراءة مضمون نظرته ، فكثيرا ما رآها النقيب في عيون أولئك الذين احتفظت شفاههم بالقدرة على صياغة مضمون تلك النظرة توسلا للموت . وبوعي أو بدون وعي فإن هذه القطعة من الإنسانية التي تتلوى ألما ، هذا المثال من الإحساس المرهف ، هذا المنتج اليدوي من الإنسان والحيوان ، هذا البرومثيوس المهان الفاقد للبطولة ؛ كان يتوسل كل شيء ، جميع الأشياء ، كل انعدام للذات ؛ وصولا إلى نعمة النسيان . هذه المعاناة المتجسدة وجهت طلبها الصامت إلى الأرض والسماء سواء بسواء ، وجهته إلى الشجر والإنسان ، إلى كل ما اتخذ صورة ما معنى أو وعيا . ماذا تطلب في الحقيقة ؟ تطلب ما نوافق عليه حتى لأكثر الكائنات حقارة _ تلك التي لا تعي _
حين تطلبه ، ولا ننكره إلا على البؤساء من بني جنسنا . إنه طلب الإنصاف المبارك ، التعاطف الأقصى ، أي ضربة الرحمة ! نطق النقيب مادول اسم صديقه ، وكرره مرارا دون أي تأثير حتى خنق الانفعال كلامه ، وتناثرت عبراته على الوجه المزرق أسفل وجهه وغشيت عينيه ، ولم يرَ سوى شيء مغمم يتحرك إلا أن التأوهات كانت أجلى من ذي قبل ، وتقطعها بين توقفات وجيزة صرخات أحد ، فأشاح بوجهه ، وضرب جبينه بيده وابتعد عن المكان . ولما لمحته الخنازير أشرعت أخطامها القرمزية أ ونظرت إليه لثانية مستريبة ، ثم قبعت
( صوتت ) معا قُباعا أجش وتقاصت معجلة عن المكان . وشال حصان _ مزقت قذيفة مدفع إحدى قائمتيه الأماميتين _ رأسه عن الأرض بهيئة جانبية ، وصهل صهيلا يحزن القلب ، فتقدم مادول وسحب مسدسه وأطلقه
بين عيني الحيوان التعيس مركزا عليه نظره وهو يصارع الموت صراعا عنيفا طويلا على خلاف ما توقع إلا أنه رقد ساكنا في النهاية ، فاسترخت عضلات مشافره المتوترة كاشفة أسنانه في تكشيرة مرعبة ، وبدا في جانب وجهه المحدد التقاطيع السلام والراحة العميقان . كانت أطراف وهج الغروب قد خبت تقريبا الآن في الغرب على امتداد ذؤابة التل البعيدة الشحيحة الشجر ، وشحب النور على جذوع الأشجار واستحال لونا رماديا رقيقا . وكانت الظلال تلوح فوق عوالي الأشجار مثل طيور ضخام جِثام . كان الليل يبسط رواقه . وبين النقيب مادول والمعسكر أميال من الغابات ومع هذا وقف قرب الحيوان الصريع يبدو عليه بوضوح فقدان الشعور بكل ما يكتنفه . كانت عيناه على الأرض عند قدميه ويده اليسرى مدلاة في تراخ إلى جانبه بينما يمناه لا زالت تمسك بالمسدس .
وفجأة رفع وجهه وحوله صوب صديقه المحتضر وأسرع عائدا إليه . ركع على ركبة واحدة ووضع فوهة المسدس في مواجهة جبين الرجل وشد الزناد ، فلم تندفع منه أي رصاصة . استعمل آخر رصاصة لقتل الحصان . تأوه الصديق المتوجع وتحركت شفتاه حركة متشنجة ، وبدا في الزبد الذي انبجس منهما لون دم خفيف . قام النقيب مادول واستل سيفه من غمده ، وأجرى أصابع يسراه على شفرته من مقبضه حتى رأسه ، ومده أمامه في خط مستقيم كأنما يختبر أعصابه . لم يلمح أي ارتعاشة في الشفرة . كان ضوء السماء الباردة الكئيبة الذي انعكس على تلك الشفرة مستقيما واضحا . انحنى النقيب وفتح بيسراه قميص المحتضر ، ثم قام ووضع رأس السيف فوق القلب تماما . ولم يصرف عينيه هذه المرة . أمسك مقبض السيف بكلتا يديه ودفعه بكل قوته وثقل جسمه ، فغارت الشفرة في جسد الرجل نافذة إلى الأرض . وكاد النقيب مادول أن يقع فوق صديقه . ورفع المحتضر ركبتيه ورمى في الوقت نفسه ذراعه اليمنى على صدره وأمسك السيف مسكة محكمة حتى بدا بياض
مفاصل أصابع يده ، فاتسع الجرح للمجهود العنيف _لكن غير المجدي _ لسحب شفرة السيف ، واندفع جدول دم وسال يتلوى في ثياب المحتضر المشوشة . وتلك اللحظة تقدم ثلاثة رجال في صمت من خلف كتلة الشجيرات