بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
فإن سورة التين من السور المكية، من المفصل، وآياتها (8) آيات، وترتيبها في المصحف (95)، في الجزء الثلاثين، وسميت السورة بهذا الاسم؛ لافتتاحها بقَسَمِ الله جل وعلا بالتين؛ ولقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر، وصلى بهم صلاة العشاء ركعتين قصرًا، فقرأ في إحدى الركعتين بسورة ﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ﴾ عقب قراءته للفاتحة))، ففي الحديث عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فقرأ في العشاء في إحدى الركعتين: بالتين والزيتون))؛ [صحيح البخاري/ ٧٦٧].
﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ﴾ [التين: 1 - 8].
قال الله تعالى: ﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ﴾ [التين: 1].
أقسم الله تبارك وتعالى بالتين وبالزيتون، وهو التين الذي يُؤكل، والزيتون الذي يُعصر، وكلاهما من الثمار المشهورة في أرض فلسطين في بلاد الشام.
والتين هو الشجرة المعروفة، وكذلك الزيتون، وأقسم ربنا جل وعلا بهاتين الشجرتين؛ لكثرة منافع شجرهما وثمرهما، ولأن تواجدهما في أرض الشام، والتي بُعث فيها عيسى ابن مريم عليه السلام.
وقيل: لقد خص التين بالقسم؛ لأنها فاكهة مخلصةٌ لا عجم لها، وهي شبيهة بفواكه الجنة، وخص الزيتون بالقسم، لكثرة منافعه وكونه شجرة مباركة، وهو ثمر ودهن يصلح للاصطباغ والاصطباح.
ففي الحديث عن أبي أسيد بن ثابت الأنصاري رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كلوا الزيت وادهنوا به؛ فإنه من شجرة مباركة))؛ [الحاكم، المستدرك على الصحيحين (٣٥٥٠)، صحيح الإسناد].
ولقد اختلف المفسرون في معنى التين والزيتون على أقوال كثيرة؛ ومنها:
أن المراد بالتين: مسجد دمشق، وبالزيتون: بيت المقدس.
وقيل: إن المراد بالتين: مسجد دمشق، وبالزيتون: مسجد إيلياء.
وقيل: إن المراد بالتين: مسجد نوح، والزيتون: مسجد بيت المقدس.
وقيل: إن المراد بالتين: هو المسجد الحرام، والزيتون: المسجد الأقصى.
وقيل: إن المراد بالتين: هو مسجد أصحاب الكهف.
ولكن الصواب والراجح أن التين: هو التين الذي يؤكل، والزيتون: هو الزيتون الذي يعصر منه الزيت؛ لأن ذلك هو المعروف عند العرب.
قال ابن عباس، والحسن، ومجاهدٌ، وإبراهيم، وعطاء بن أبي رباح، ومقاتلٌ، والكلبي: هو تينكم هذا الذي تأكلونه، وزيتونكم هذا الذي تعصرون منه الزيت.
وقوله تعالى: ﴿ وَطُورِ سِينِينَ ﴾ [التين: 2].
أي: وأقسم الله جل وعلا بجبل سيناء، الذي كلم وناجى عنده الله جل وعلا نبيَّه موسى عليه السلام تكليمًا.
وقوله تعالى: ﴿ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ﴾ [التين: 3].
وأقسم الله جل وعلا بمكة البلد الحرام الذي يأمَن مَن دخل فيه، وهو البلد الذي بُعث فيه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فأقسم تعالى بهذه المواضع المقدسة، وهي "مكة" مهبِط الوحي التي اختارها وابتعث منها أفضل النبوات وأشرفها.
وقوله تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ [التين: 4].
أي: لقد أوجدنا الإنسان في أعدل خَلْقٍ وأفضل صورة، فهو تام الخلق، متناسب الأعضاء، منتصب القامة، لم يفقد مما يحتاج إليه ظاهرًا أو باطنًا شيئًا، ومع هذه النعم العظيمة، التي ينبغي منه القيام بشكرها، فأكثر الخلق منحرفون عن شكر المنعم، مشتغلون باللهو واللعب، قد رضُوا لأنفسهم بأسافل الأمور، وسفساف الأخلاق، والعياذ بالله تعالى.
وقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ﴾ [التين: 5].
أي: ثم أرجعناه إلى الهرم وأرذل العمر والخَرَفِ في الدنيا، فينقص عقله، ويضعف بدنه، فلا ينتفع بجسده كما لا ينتفع به، إذا أفسد فطرته وصار إلى النار.
وقيل: فردَّهم الله جل وعلا في أسفل سافلين؛ أي: أسفل النار، وهو موضع العصاة المتمردين على ربهم سبحانه وتعالى.
قال الطبري: "وإذ كان ذلك كذلك، وكان القوم للنار - التي كان الله يتوعدهم بها في الآخرة - منكرين، وكانوا لأهل الهَرَمِ والخَرَف من بَعْدِ الشباب والجَلَدِ شاهدين، علم أنه إنما احتج عليهم بما كانوا له معاينين، من تصريفه خلقه، ونقله إياهم من حال التقويم الحسن والشباب والجلد، إلى الهرم والضعف وفناء العمر، وحدوث الخرف".
وقوله تعالى: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴾ [التين: 6].
أي: إلا الذين آمنوا بالله تبارك وتعالى، وتفضل عليهم بالإيمان به سبحانه، ووفقهم للأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة، فإنهم وإن هرِموا، فلهم بذلك في الجنة المنازل العالية، واللذات المتوافرة، والنعم المتكاثرة، في أبد لا يزول، ونعيم لا يحول، أكلها دائم وظلها، والثواب الدائم غير المقطوع عنهم أبدًا.
وقوله تعالى: ﴿ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ﴾ [التين: 7].
أي: أي شيء يكذبك - أيها الإنسان - بيوم البعث والجزاء على الأعمال، مع وضوح الأدلة على قدرة الله تعالى على ذلك، وقد رأيت - أيها العبد - من آيات الله تبارك وتعالى الكثيرة ما به يحصُل لك اليقين، ومن نِعَمِهِ ما يوجب عليك ألَّا تكفر بشيء مما أخبرك به سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ﴾ [التين: 8].
أي: أليس الله سبحانه وتعالى الذي جعل هذا اليوم للفصل بين الناس، بأحكم الحاكمين في كل ما خلق؟ بلى، فهل يترك الخلق سدًى، لا يُؤمَرون ولا يُنهون، ولا يُثابون ولا يُعاقبون؟ لا يصح ذلك ولا يكون، فهل يعقل أن يترك الله جل وعلا عباده سدًى دون أن يحكم بينهم، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته؟!
من مقاصد السورة: تأكيد تكريم الإنسان بخلقه في أحسن صورة، وذكر قيمته وشرفه بدينه، وسفوله وهوانه بتخليه عنه، والإشارة إلى أنه خُلق على الفطرة المستقيمة؛ وهي الإسلام، والتعريض بالوعيد للمكذبين بالإسلام، والتنويه بحسن جزاء المصدقين.
هذا ما تيسر إيراده من تفسير لهذه السورة العظمية، نسأل الله العلي الأعلى أن يكون من العلم النافع والعمل الصالح، ونسأله سبحانه الثبات على دينه وشريعته، وأن يصرف قلوبنا إلى طاعته، ووالدينا أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
المصادر والمراجع:
1- جامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير الطبري)، للإمام محمد بن جرير الطبري.
2- الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي)، للإمام محمد بن أحمد بن أبي بكر شمس الدين القرطبي.
3- تفسير القرآن العظيم، (تفسير ابن كثير)، للإمام عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير.
4- معالم التنزيل (تفسير البغوي)، للإمام أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي.
5- فتح القدير، للإمام محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني.
6- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الشيخ عبدالرحمن السعدي.
7- التحرير والتنوير، لمحمد الطاهر بن عاشور.
8- أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير، الشيخ جابر بن موسى بن عبدالقادر المعروف بأبي بكر الجزائري.
9- المختصر في التفسير، مركز تفسير.
10- التفسير الميسر، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.
11- الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، الشهير باسم «صحيح البخاري»، للإمام محمد بن إسماعيل البخاري.
12- المستدرك على الصحيحين، للإمام أبي عبدالله محمد بن عبدالله الحاكم النيسابوري.
د. كامل صبحي صلاح