و أما الذين تنهزم عزائمهم أمام جوع الصيام و حرمانه و هم مؤمنون بفرضيته و قدسيته ، فنحن نذكرهم بأننا نعيش في قلب المعركة الفاصلة في تاريخ هذه الأمة ، و ليس الصيام إلا صبر ساعات على أقل مظاهر الحرمان في الحياة من طعام و شراب ، فمن انهزم بينه و بين نفسه عن تحمل شدة الصبر ساعات من النهار فسيكون أشد هزيمة بينه و بين أعدائه عن تحمل قسوة الكفاح و النضال أياما و شهورا و أعواما ، فالمنهزمون في ميدان صغير ليسوا أهلا لأن يحرزوا النصر لأمتهم في ميدان كبير ، و من أعلن استسلامه في معركة نفسية تدوم ساعات ، فقد حكم على نفسه بفقدان أول خلق من أخلاق المكافحين و هو الرجولة ، و من عز عليه أن يعيش في جو الرجال فقد أخرج نفسه من سجلات الشهداء و الأبطال .
و أما الذين يرون في رمضان جوعا في النهار ، و متعة في الليل ،أما جمهور المسلمين الصائمين فإليهم نوجه هذا الحديث ، و هم الذين نرجو أن ينفعهم الله بالصيام ، و يثبتهم عليه ، و يجزل مثوبتهم فيه .
إن الأمم كالأفراد تحتاج في حياتها الطويلة إلى فترات من الراحة و الهدوء ، تُصلح فيها ما فسد من أوضاعها ، و تجدد ما كاد يبلى من مقوماتها ، و تعالج ما ساء من شؤونها ، و هذه الفترات هي اللحظات الفاصلة في تاريخ الأفراد و الجماعات ، فإن عرفت كيف تستفيد منها ، كانت مفتاحا لكل خير تناله في المستقبل ، و لكل نصر تحرزه في المعارك ، و لكل خلود تسجله في التاريخ ، و رمضان هو هذه الفترة الروحية التي تجد فيها الجماهير و الأفراد فرصة لإصلاح تاريخها .
إن رمضان (محطة ) لتعبئة القوى النفسية و الروحية والخلقية التي تحتاج إليها كل أمة في الحياة ، ويحتاج إليها كل فرد في المجتمع ، إنه يمنحنا فيما يمنح ، تذكيرا بالحق الذي تقوم السموات والأرض عليه ، وتخلقا بالقوة التي لا تنتصر أمة بدونها ، وشغفا بالحرية التي لا تتم الكرامة الإنسانية إلا بها ( حق ، و قوة ، و حرية ) هذا هو بعض ما يمنحنا رمضان في أيامه الجائعة العطشى ، وما رأيت في حياتي صائما يفهم معنى الصوم ، ويتحقق بحكمته وفلسفته إلا مناضلا في سبيل الحق لا تلين له قناة ، قويا في حلبة الصراع لا ينهزم منه ، خلق حرا بأكرم معاني الحرية ، لا تعلق به ذلة و لا عبودية .
إن المسلم الصائم طواعية و اختيارا و عبودية لله ، و خضوعا لجلاله ، و رجاء للقرب منه والأنس بحضرته ، يرى الأنانية والأثرة و العزلة والانقطاع عن مشاركة المجتمع في آلامه وأحزانه ، يرى في ذلك كله باطلا ما أحراه أن يترفع عنه و ينتصر عليه .
و يرى الأهواء والشهوات والظلم والبغي والعداوة والبغضاء ضعفا يقتل روح الأمة ما أجدر به أن يثور عليه و يقف دونه ، و يرى في لذة المناجاة مع الله ، وتنفيذ شرعه فيما نهى وأمر ، حرية تنأى به عن العبودية لغير الله من طعام وشراب ولذة وطمع وأماني كاذبة ، فهو الحر دائما وأبدا ، هو الحر الذي لا تتجلى حريته في القدرة على الانتقال من مكان إلى مكان بل في القدرة على أن يتحكم في عواطفه و ميوله ، فيحبس عنها ما يشاء و يطلق منها ما يشاء .
إنه هنا حر الروح و لو أطبقت عليه الجدران ، حر الفكر و لو عاش في أرض قفر ، حر الإرادة و لو كبل بالحديد ، و هذه لعمري هي الحرية التي تليق بكرامة الإنسان ، و أين منها حرية الأشباح و الأجسام !
بهذا الفهم الدقيق لرمضان و فلسفته ، و بهذا التخلق الكامل بالصيام وآدابه ، سجل تاريخنا القديم والحديث من النصر في معارك الحق آيات بينات ، وترك للإنسانية من أبطال الإصلاح و الفتوح والحكم والعلم أعلاما شامخات .
أفترون المسلمين يوم بدر ، و قد كانت في اليوم السابع عشر في رمضان ، أفترونهم يومئذ خاضوا المعركة في قلة من العَدد و العُدد ثم انتصروا على أقرانهم من أبناء عمومتهم و مواطنيهم نصرا مؤزرا خلده القرآن في محكم آياته .
أفترونهم استطاعوا أن يحرزوا هذا النصر لولا أن الصيام بث فيهم من القوة ونصرة الحق والحرية الروحية الكاملة ما جعلهم يخوضون المعركة أقوياء أحرارا ؟ إن بطشوا بطشوا بقوة الله ، و إن رموا رموا بعزة الله ، و إن صالوا و جالوا كانت قوة الحق و إشراقة الروح هي التي تسدد لهم الهدف و تدلهم على مقاتل الأعداء !
ثم هل ترون معاركنا التي انتصرنا فيها في اليرموك و القادسية و جلولاء وحطين و غيرها ، هل كانت تتم بهذه الروعة المعجزة التي لا تزال تذهل كبار الباحثين في أسرارها ، لولا أن أهلها كانوا يتخلقون بخلق الصائمين ، من عفة وسمو ، و تضحية و فداء ، و تحمل للشدائد ، و خضوع لله و استعلاء على كل ما سواه ، و استهزاء بقوى الباطل مهما كثرت ؟
ذلك أنهم وصلوا أرواحهم بقوة الله ، و من ذا الذي يغلب الله ؟
لقد علمهم الإسلام بالصيام في أيام السلم كيف يستطيعون أن يصوموا في أيام الحرم ، و الحرب لا ينتصر فيها الضعيف على القوي و القليل على الكثير و الأعزل على المسلح إلا إذا كانت له أخلاق الصائمين ، فهم صائمون عن الراحة لا يعرفون هدوءا و لا استقرارا ، صائمون عن اللذة لا يعرفون زوجة و لا ولدا ، صائمون عن الترف لا يعرفون حريرا و لا ديباجا ، صائمون عن النوم لا يعرفون ليلا و لا نهارا ، صائمون عن عشق الحياة لا يرون ألذ من الموت طعما و لا أحلى من الشهادة موردا .
و بعد
فإن رمضان أطل علينا و أظلنا بأفيائه ....
فالذين يستقبلونه على أنه شهر نهاره جوع و ليه لهو ، و تلاوة للقرآن لا تجاوز اللسان و نوم في النهار و سهر في الليل فلن يستفيدوا منه .
و أما الذين يستقبلونه على أنه مدرسة لتجديد الإيمان و تهذيب الخلق و تقوية الروح و استئناف حياة أفضل و أكمل ، فهؤلاء هم الذين يستفيدون منه ، هؤلاء هم الذين تفتح لهم أبواب الجنان في رمضان ، و تغلق عنهم أبواب النيران ، و تتلقاهم الملائكة ليلة القدر بالبشرى والسلام ، هؤلاء هم الذين ينسلخ عنهم رمضان مغفورة لهم ذنوبهم ، مكفرة عنهم سيئاتهم ، مجلوة بنور الله قلوبهم ، مجددة بقوة الإيمان عزائمهم .
هؤلاء هم الذين تصلح بهم الأوضاع ، و تنتصر بهم الأمة ، و تسعد بهم المجتمعات ، و ما أحوجنا إليهم اليوم و نحن في قلب المعركة مع الاستعمار و الباطل ، فإما أن نذل و إما أن نحيا .
فهيا أيها المؤمنون ، فقد قامت سوق الجنة
و هيا أيها المتخلفون فقد امتدت يد الله تعالى إليكم ....