بسم الله الرحمن الرحيم ما واجبك نحو نفسك
عن عَونِ بنِ أبي جُحَيفةَ عن أبيهِ قال {آخى النبيُّ صلي الله عليه وسلم بينَ سَلمانَ وأبي الدَّرداءِ فزارَ سَلمانُ أبا الدَّرْداء فرأى أمَّ الدَّرداءِ متَبذِّلةً فقال لها: ما شأنُك؟ قالت: أخوكَ أبو الدَّرداءِ ليسَ لهُ حاجةٌ في الدُّنيا فجاءَ أبو الدَّرداءِ فصنَعَ لهُ طَعاماً فقال له: كل، قال: فإني صائمٌ، قال: ما أنا بِآكِلٍ حتى تَأْكُلَ. قال: فَأَكلَ فلمّا كان الليلُ ذَهبَ أبو الدرداءِ يقومُ، قال: نَمْ، فنام. ثم ذَهبَ يقومُ، فقال: نَمْ. فلمّا كانَ مِن آخِرِ الليلِ قال سَلمانُ: قُمِ الآنَ، فصَلَّيا، فقال له سَلمانُ: إِنَّ لِربِّك عليكَ حقاً ولنفْسِكَ عليكَ حقاً ولأهلِكَ عليكَ حقاً فأعْطِ كلَّ ذي حَقّ حقَّه فأتى النبي صلي الله عليه وسلم فذَكرَ ذلكَ له فقال له النبي صلي الله عليه وسلم: صَدَقَ سَلمانُ }[1]
المنهج الذي يرسمه رسول الله لكل مؤمن أن جعل على كل مؤمن حقاً لله وهو طاعة الله وعبادة الله بالكيفية التي فرضها علينا الله في كتاب الله ونؤديها بالكيفية التي علَّمنا إياها رسول الله لماذا؟ شكراً لله على عطاياه وعطايا الله لنا وحولنا لا تعد ولا تحصى {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }النحل18
وجعل رسول الله صلي الله عليه وسلم لمن نعاشره من زوجة وأولاد وأهل وأقارب وجيران وخلان وأصدقاء كل واحد من هؤلاء أو واحدة له حقوق علينا بيَّنها رسول الله وطلب منا جميعاً أن نلتزم بهذه الحقوق فإذا التزمنا بها نلنا رضائهم وفي يوم القيامة أمِنَّا من مطالباتهم لأن أي إنسان يُقصِّر فيما عليه واجب في هذه الحقوق يُسائَل عنها يوم القيامة والذي يُسائِل ويحاسب هو رب العزة
وجعل آخرها حق للإنسان على نفسه وربما يظن ببال البعض أن حق الإنسان على نفسه أن يمتعها بأن يذهب بها إلى أماكن المنتزهات وإلى أماكن السياحة لا مانع من ذلك إذا كانت هذه الأماكن ليس فيها ما يُغضب الله ولن يرتكب فيها مخالفات شرعية على أن يكون أهم ما يحرص عليه فيها أن يعتبر وأن يتفكر وأن يتذكر في كل ما يراه نعم الله جل في علاه {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ }آل عمران190
لكن أهم ما على الإنسان نحو نفسه أن يحرص على أن ينجيها بعد الخروج من الدنيا من عذاب الله وعلى أن يجعلها تكتسب وتنال رضاء الله وأن يجعلها من الذين يدخلون يوم القيامة جنة الله في جوار حبيب الله ومصطفاه {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}المطففين26
وعلَّمنا رسول الله في ذاته كيفية الوصول إلى هذا المرام فكان صلي الله عليه وسلم في ذاته الإنسانية وفي قيامه بواجباته وحقوقه نحو نفسه صلوات ربي وتسليماته عليه لا يتكلم فيما لا يعنيه لا يتكلم إلا إذا وجد للكلام ضرورة فإذا لم يجد ضرورة امتنع عن الكلام لأن الكلام إما خير تنال أجره يوم الزحام وإما ذنوب وآثام تستوجب العقاب يوم لقاء الملك العلام إما هذا أو ذاك لقول الله {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18
وكان أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم لما تعلَّموا منه هذا الخُلق النبيل وهذا الوصف الجميل أحرص الناس على ألا يخرج من اللسان إلا ما يُرضي الرحمن فكلهم عاهد نفسه ألا يسب أحداً ولا يشتم أحداً ولا يلعن أحداً وكان صلي الله عليه وسلم يُعلِّمهم ذاك في دروس عملية
مشى النبي صلي الله عليه وسلم نحو مكة في صلح الحديبية ينوي العمرة ومعه الصديق أبو بكر، وأبو بكر جهَّز جملاً وضع عليه زاده وزاد الحبيب المصطفي صلي الله عليه وسلم من الطعام وطلب من غلام عنده ألا يكون هناك هم له إلا المحافظة على هذا الجمل لأن فيه قوته وغذاءه وقوت رسول الله فجاء الغلام بعد برهة من الزمن وقال: لقد ذهب الجمل وتاه وضاع مني فغضب الصديق رضي الله عنه وهمَّ بسبه ولعنه وإذا بالمعلم الأعظم صلوات ربي وتسليماته عليه أمامه ويقول له {يا أبا بكر أصدّيقين ولعانين كلا ورب الكعبة ـ مرتين أو ثلاثاً}[2] فرجع عما نواه، وأوقف لسانه عن إخراج الكلام الذي لا يُرضي الله تأسياً برسول الله ومصطفاه صلي الله عليه وسلم
وهذا أعظم ما لقَّنه الحبيب بفعله وحاله وقوله لصحبه الكرام كان صلي اله عليه وسلم يقول عن نفسه {أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ}[3] فكان لا يتكلم إلا بالكلمات المعدودات لكنها تحتوي معاني كُثر لا تحويها ولا تستطيع شرحها الكتب المعدودات لدقة معانيه وتعمقه في الألفاظ التي ينطقها لأن وجهته في كل لفظ إرضاء خالقه وباريه وإذا نطق بكلمة لأي إنسان يلاحظ حال هذا الإنسان فلا يخرج منه كلام إلا كأنه شفاء وعسل وبلسم شافي لجميع من حوله من بني الإنسان ولذا قال فيه ربه مادحاً ومُثنياً {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى{3} إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى{4}} النجم
ولذلك وُصف صلوات ربي وتسليماته عليه في الكتب السابقة وسُئل في ذلك عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: بِمَ وُصِف رسول الله صلي الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل؟ فقال {وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَحِرْزًا لِلأُمِّيِّينَ أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلا غَلِيظٍ وَلا صخَّابٍ فِي الأَسْوَاقِ وَلا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا}[4]
ولقننا هذه المعاني في دروس عظيمة تليق بحالنا فقال لنا معشر المسلمين أجمعين{لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلا اللَّعَّانِ وَلا الْفَاحِشِ وَلا الْبَذِيءِ}[5]
[1] البخاري وابن حبان [2] أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت عن عائشة رضي الله عنها [3] صحيح مسلم وسنن الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه [4] صحيح البخاري وسنن البيهقي ومسند الإمام أحمد [5] سنن الترمذي ومسند الإمام أحمد
منقول من كتاب [أمراض الأمة وبصيرة النبوة]