فصد الدم وتاريخه
من المفترض أن مهنة الطب تمارس وفق شعار عدم التسبب بضرر، ولكن التاريخ يبين لنا أن الكلام في بعض الأحيان أسهل من الفعل. كان القدماء متطورين في معرفتهم بالأمراض، ومع ذلك غالبا ما لجأ واإلى بعض الأساليب الرهيبة في محاولات مضللة لشفاء مرضاهم.
أحد هذه الأساليب هي فصد الدم: فقد ساد لآلاف السنين الاعتقاد بين ممارسي الطب بأن المرض هو مجرد نتيجة لوجود بعض "الدم الفاسد". لذلك فإن العلاج يكون بتخليص الجسم من هذا الدم عبر إحداث نزف. على الأرجح بدأت هذه الممارسة مع السومريين القدماء والمصريين، لكنها لم تصبح شائعة إلا مع اعتمادها في اليونان وروما ومع الطبيب الروماني، جالينوس، الذي عاش في القرن الثاني الميلادي. ذكر جالينوس أن الدم نتاج الغذاء. فبعد وصول الغذاء إلى المعدة، يتحول إلى سائل، ثم يُرسَل إلى الكبد، حيث يُحَوَّل إلى دم. وأحيانًا ينتج المرء دمًا زائدًا عن الحاجة، على حد اعتقاده، وهذا هو السبب في كل أشكال الاضطرابات الصحية، بما في ذلك الحمى والصداع — وحتى النوبات المرضية — ولذا كان السبيل الوحيد للعلاج هو تخليص الجسد من هذا السائل الفائض عن الحاجة.
وبقدر ما كان فصد الدم يبدو ممارسة ضرورية للغاية، كان الكثير من الأطباء يرون أن «فن استخدام المبضع» لا يليق بهم. وبدلًا من القيام بهذه المهمة بأنفسهم، كانوا يحيلون الحالات التي تحتاج إلى الفصد إلى الحلاقين الجراحين، الذين يضطلعون بالمهمة إلى جانب مجموعة متنوعة من الخدمات الشخصية الأخرى.
يرجع شعار الحلاقين التقليدي المتمثل في العمود ذي الخطوط الحلزونية إلى ذلك العصر، حيث كان يمثل إعلانًا عن براعتهم في فصد الدم. أما العمود فيمثل ذلك القضيب الذي كان المريض يقبض عليه لكي يبرز وريده، وأما الكرة النحاسية في أعلى العمود فترمز إلى الحوض المستخدم في جمع الدماء المفصودة. وتمثل الخطوط البيضاء والحمراء الضمَّادات الملوثة بالدماء، التي كانت عندما تُغسل وتُعلَّق على القضيب خارج المحل لتجف تلتف حوله بفعل الريح، مُشكِّلةً ذلك الشكل الحلزوني المألوف الذي يزين أعمدة الحلاقين حتى يومنا هذا.
كان معظم الممارسين يستخدمون سكينًا ذا حدين يسمى المبضع، وكانت المباضع تتوافر بأحجام مختلفة، وذلك للحيلولة دون جرح الوريد بعمق كبير. وقد نبَّه الطبيب اليوناني، أبقراط، العاملين بالفصد إلى توخي الحذر عند اختيار مبضعهم «لأن هناك أجزاءً معينة من الجسد تزداد فيها سرعة جريان الدم فيصبح من الصعب إيقاف تدفقه. كان من الممكن أن يُفصَد الدم من أماكن متعددة من الجسم. ففي القرن السادس عشر، حدد الجراح الألماني هانس فون جيرسدورف 41 موضعًا مناسبًا للفصد، بما في ذلك الجبهة والرقبة والذراع والمعصم والفخذ وحتى الأعضاء التناسلية. وفي هذه الفترة، كانت الأوردة تعتبر إما خاصة بالقلب، أو الصدر، أو الرأس. وكانت طبيعة المرض تملي المكان الذي ينبغي فصد الدم منه؛ فعلى سبيل المثال، لمعالجة النزيف الأنفي، نصح جالينوس بفصد الدم من خلف الركبة.
لم يعد هذا التفكير مستحسنًا بعد قيام الطبيب الإنجليزي، ويليام هارفي، بوصف الدورة الدموية داخل الجسم في كتابه الرائد «عن حركة القلب»، الذي نُشِرَ عام 1628. ومع انتشار هذه المعلومة، بدأ معظم الممارسين في حصر اهتمامهم في الوريد البازلي الناصف الموجود في باطن أعلى الذراع. وقد وصل فصد الدم إلى قمته في القرن الثامن عشر. حينئذ، لم يكن الناس يلجئون إلى الفصد عند مرضهم فحسب، وإنما كان يُستخدم لأغراض وقائية كذلك، وكان يُجرى عادة في فصل الربيع؛ إذ يعتبر وقت الميلاد الجديد وتجدد الشباب.
فقدت هذه الممارسة أخيرا رواجها بعد أن أظهرت أبحاث جديدة أن ضررها قد يكون اكثر من فائدتها.