محرومٌ في رمضان
الكاتب : فيصل بن عبد الرحمن الشدي
الحمد لله، ما تعاقب الجديدان وتكررت المواسم، أحمده سبحانه وأشكره شكر التقي الصائم، وأصلي وأسلم على نبينا محمدٍ عبده ورسوله حميد الشِّيم وعظيم المكارم، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه كانوا على نهج الهدى معالم، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إخواني وأخواتي: أقبل عليكم شهرُ المرابحِ بظلالِه ونوالِه، وجمالِه وجلالِه، زائرٌ زاهر، وشهرٌ عاطر، فضله ظاهرٌ بالخيرات زاخرٌ، أنَّى لعادٍّ أن يُعدَّ نفحاته، ويُحصيَ خيراتِه، ويستقصي ثمراتِه، أجمِل بنداءِ مناديه يوم أن يُنادي «يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاءُ من النار» [صححه الألباني].
حُقَّ وربِ الكعبة للأنفس المؤمنة أن تتطلع إلى رؤيته، وحُقَّ للأفئدة الطاهرة أن تتشوق إلى طلعته.
وكم والله من طامعٍ بلوغ هذا الشهر فما بلغه!، وكم من مؤملٍ إدراكه فما أدركه!، فاجأه الموت فأهلكه.
إخواني وأخواتي: رحيل من رحل عنا نذير لنا، وهذا الموت منا قد دنا، والرحيل قرب ولا زادَ عندنا، فالغنيمة الغنيمة قبل أن لا توبة تُنال، ولا عثرة تُقال، ولا يُفدى أحدٌ بمال، أروا الله من أنفسكم خيرا، فبالجد فاز من فاز، وبالعزم جاز من جاز، تقول عائشة -رضي الله عنها-: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر الأواخر، ما لا يجتهد في غيره" [رواه مسلم].
عبد الله: هذا أوانُ الجدِّ إن كُنت مُجدَّا، هذا زمانُ التعبدِ إن كُنت مستعدَّا، وهذا سيل الخير صب، وهذا باب الخير مفتوح لمن أحب، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين» [رواه مسلم].
يا من ألف الذنوب وأجرما، يامن غدا على زلاته متندما، تب فدونك المنى والمغنما، والله يحب أن يجود ويرحما، وينيل التائبين نواله تكرما.
يا أسير المعاصي: ها هو شهر رمضان أقبل فيه يُفكُّ العاني، فيه يُعتق الجاني، ويُتجاوز عن العاصي، فلا تكن ممن أبى، إي وربي لاتكن ممن أبى، صعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر فقال: «آمين آمين آمين» فقيل: يا رسول الله إنك صعدت على المنبر فقلت: آمين آمين آمين فقال: «إن جبريل -عليه السلام- آتاني فقال: من أدرك شهر رمضان، فلم يغفر له، فدخل النار؛ فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين» [المحدث: الألباني، حسن صحيح].
إخوان وأخواتي: كم هو رمضان قد مرَّ علينا فيما مضى سنين عددا وما نرى تغيرًا كبيرًا في حياة كثيرٍ منا لا ازديادًا في العبادات ولا اجتنابًا لكثير من السيئات.
وما ذاك والله إلا لأن المحرومين في شهر الصوم كثير، نعم والله محرومون ما ذاقوا عبق رمضان ولذته، وما عاشوا حقا أنس العمل الصالح وحلاوته.
يمضي رمضان تلو رمضان وذكرياتهم فيه سبات نومٍ بالنهار طويل، وسهرٌ صاخب بالليل على القال والقيل، وعبٌ من سيء العمل والوزر الثقيل.
فإن ذكرَ صالحًا بينها يُذكر فمن قراءة للقرآن قليل، ويسير صلاةٍ لا توازي في وقتها عشر معشار ما يصرفه لنهمته وشهوته.
نعم محروم والله من ضاع ليله ونهاره في رمضان فيما يغضب الله.
محروم والله من مضت عليه أيام رمضان يومًا يومًا وزاده من القرآن قليل، حتى أن رمضان يكاد يرحل وهو مازال يجاهد نفسه في ختمة.
محروم والله محروم من صيامه مردودٌ عليه، وبضاعته ملقاةٌ بين يديه، حظه من صيامه الجوع والعطش ليس إلا، صام عن الطعام، لكن ما صام عن أكل الحرام، وقبائح الآثام، وفلتات اللسان والغيبة والسب والعدوان.
محروم والله من تثاقلت نفسه عن القيام مع المسلمين في صلاة التراويح والقيام، المتعبدون في صلاةٍ ودعاء، وتضرعٍ وبكاء، وهو في حديثٍ وغفلةٍ مع ذا وذا.
محروم والله من كان ذا سعة فلم تجُد يده بإنفاق، ولا ببذل وإشفاق، فلم يعرف الفقير له بابا، ولم يذق له طعاما ولا شرابا، أهل الجود تُبسط أيديهم في رمضان، وهو محروم عينه على درهمه ودنياه، ليس له في تفطير الصائمين يد، ولا يعرف له في عون الفقير مد، ولا يعلم له في فاقة المحتاج سد، ألا أين هو من نبيه كان أجود الناس وأجود ما يكون في رمضان، وإنه بالخير كالريح المرسلة.
محروم والله من صام نهاره وصان فيه نفسه، فإذا هو أفطر إذ بعينِه وسمعِه على ما حرم الله تفطر، يقلب البصر في قبيح الشاشات، ويمعن النظر في فاحش المشاهدات، ولحرفِ الحرام ورنته يصغي الدقائق والساعات.
محروم من مضى عليه عامةُ رمضان وهو وأهله يذرعون السوق ذرعا، يقطعون فيه الطريق طولا وعرضا.
ألا والله ما أكثر المحرومين؟! تالله إنهم ما تأملوا ولا تدبروا قول ربهم يوم أن قال:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ..} [البقرة: 183، 184] صدق أصدق القائلين أياما معدودات ما أسرعها وما أعجلها وما أنفسها، وعند الصالحين ما أغلاها وعند ديان يوم الدين ما أعلاها، فاز وربي من بناها، وجاهد النفس وزكاها، وخاب وربي من دساها، وعن الخير جافاها.
اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
كتبه: فيصل بن عبد الرحمن الشدي
المحاضر في جامعة الخرج
إمام وخطيب جامع العز بن عبدالسلام بمحافظة الخرج