من هو ؟؟
جمع بين الانتساب إلى البيت الحاكم والاقتراب من الشعب وطوائفه المختلفة، وبين الثراء العريض والجد في العمل، وبين الاشتغال بالعمل العام والانغماس في الدرس والتأليف، وبين الالتحام بقضايا الوطن والإحساس بهموم العالم الإسلامي، وملك فوق ذلك كله مروءة عالية تنهض لنجدة الملهوف والمحتاج من الأفراد والمؤسسات والأمم، وكان تعلقه بالواجب يباري تخلقه بالأدب الجم، وكان صورة صادقة للأمير العالم تشهد على ذلك بحوثه ومؤلفاته، وللسياسي الوطني ويدل على ذلك وقوفه مع المجاهدين المصريين، وللثري المحسن الذي وضع ماله وجاهه في خدمة وطنه.. إنه الأمير عمر طوسون.
مولده ونشأته
الأمير عمر طوسون هو الابن الثاني للأمير طوسون بن محمد سعيد بن محمد علي مؤسس مصر الحديثة، ولد في مدينة الإسكندرية يوم الأحد الموافق (5 رجب 1289 هـ= 8 من سبتمبر 1872)، ولما بلغ الرابعة من عمره فقد والده، فكفلته وربته جدته لأبيه وأشرفت على تعليمه، وكانت دراسته الأولى في القصر ثم استكملها في سويسرا، وبعد تخرجه تنقل بين عدة بلدان أوروبية مثل: فرنسا وإنجلترا، وشاهد ما هي عليه من حضارة وتقدم، ووقف على ما وصلت إليه من رقي وتطور في مجالات الصناعة والزراعة، وعاد إلى الوطن محملا بزاد كبير من العلم والثقافة وإجادة للإنجليزية والفرنسية والتركية وعزم على إصلاح بلده والتجديد فيها.
ثروة طائلة.. لكن
بعد عودته تفرغ لإدارة أملاكه، وكان قد ورث ثروة طائلة عن أبيه تضمن له عيشة رغدة واستمتاعا بمباهج الحياة دون تعب أو جهد، ولكنه لم يكن من هذا الصنف الذي يميل إلى الراحة والدعة، بل كان ممن يجد متعته في العمل النافع، فأدار أملاكه إدارة حسنة، وشغل نفسه بتحسين غلة أرضه وتجويد صنف محاصيلها، ولم تمض سنوات قليلة حتى زادت موارد أملاكه، وبلغ من حسن إدارته أن أسند إليه اثنان من أقاربه إدارة شئون أملاكهما، فقام بذلك عن رضا نفس وطيب خاطر دون أن يتقاضى عن ذلك أجرا.
وقد هيأت له نشأته الطيبة وثقافته العالية وميوله الإسلامية أن يقترب كثيرا من أبناء الشعب المصري ويخالطهم، وكان أكثر أمراء البيت العلوي إحساسا بقضايا الأمة وعملا على تحسينها. ويبدو أنه ورث هذه الخصلة من جده الوالي سعيد بن محمد علي الذي كان يعطف على الفلاحين المصريين؛ فأسقط عنهم ما يثقل كاهلهم من الضرائب، وملكهم الأرض الزراعية، وجعل لهم مطلق الحرية في التصرف في زراعتها وبيع حاصلاتها. وكما اقترب طوسون من القضايا الوطنية اقترب كثيرا من القضايا الإسلامية، فلم يُخف ميوله إلى الدولة العثمانية والوقوف إلى جانبها وفي صفها.
نصير الخلافة والمسلمين
كان عمر طوسون مثل كثير من المصريين لا يخفي تعاطفه مع الدولة العثمانية باعتبارها دولة الخلافة التي تظل العالم الإسلامي وتربط بين أبنائه، وكانت الدولة تمر بظروف بالغة الحرج بعد أن تآمرت عليها أوروبا وبدأت في التهام بعض أراضيها، وكان طوسون من أعلى الأصوات في مصر مؤازرة للدولة وعونا لها فيما يقع لها من المصائب والكوارث.
فحين نشبت الحرب الإيطالية الطرابلسية سنة (1329هـ= 1911م) وخاضت الدولة العثمانية الحرب مع أهالي برقة وطرابلس ضد إيطاليا الطامعة في الأراضي الليبية أهاب الأمير عمر طوسون بالمصريين لمد يد العون إلى إخوانهم المسلمين في القطر الذي يجاورهم (ليبيا)، ورأس اللجنة التي شُكلت لجمع التبرعات لمساعدة الدولة العثمانية في حربها العادلة ضد العدوان، وبدأ بنفسه فتبرع بخمسة آلاف جنيه للجيش العثماني الذي يقاتل هناك، وبألف أخرى لبعثة الهلال الأحمر المصرية التي سافرت إلى هناك. وهذه المبالغ كانت ضخمة في وقتها، بالإضافة إلى ما كان يرسله إلى المجاهدين في برقة والجبل الأخضر من القوافل المحملة بالعتاد والطعام، وكان لهذا العون الكريم أثره في استمرار الجهاد ومواصلة القتال.
ولم يمض عام على هذه الحرب حتى اشتعلت حرب أخرى ضد الدولة العثمانية في البلقان، وكانت أكثر ضراوة وأشد فتكا، وكانت أوروبا تقف خلفها، فانتقض عمر طوسون لمساعدة العثمانيين وبذل جهدا مضاعفا لجمع التبرعات، وجاب أنحاء مصر مع الأمير محمد علي لهذا الغرض، حتى تجمعت لديه حصيلة ضخمة من التبرعات بلغت ثلاثمائة ألف جنيه في بضعة أسابيع، كما نظم البعوث الطبية لجمعية الهلال الأحمر -التي أسسها بعض أمراء أسرة محمد علي- إلى هناك.
ولما انتهت الحرب العالمية الأولى بانتصار الحلفاء وهزيمة الدولة العثمانية اقتطع المنتصرون كثيرا من الأراضي العثمانية، واحتلوا عاصمة دولة الخلافة، واضطرت فلول الجيش العثماني إلى الانسحاب إلى داخل الأناضول للدفاع عن البقية الباقية من بلادهم، وكان هؤلاء يحتاجون إلى العون والمساعدة حتى يستمروا في الدفاع والصمود، فامتدت إليهم يد الأمير عمر طوسون الذي دعا المصريين إلى التبرع لإخوانهم فاستجابوا لدعوته، واستمرت هذه المعونة تتدفق ثلاث سنوات على هؤلاء المدافعين حتى تمكنوا من تحقيق النصر على اليونان وتحرير أرضهم.
ولكن بعد أن تم لهم النصر عصفوا بالخلافة الإسلامية، وأخرجوا الخليفة عبد المجيد وسائر أسرة آل عثمان، وكان لهذا الحادث أثر فاجع في نفوس المسلمين، وعم الحزن أرجاء العالم الإسلامي، فانبرى عمر طوسون يدافع عن مقام الخلافة، ويقف إلى جانب الأسرة المنكوبة، فألف جمعية لمساعدة الخليفة عبد المجيد وأمراء البيت العثماني وإمدادهم بما يحتاجونه.
وآزر عمر طوسون بجهده وماله معظم القضايا الإسلامية التي عاصرها، فناهض سياسة فرنسا في مراكش (الجزائر) التي كانت تدعو إلى تحويل مئات الألوف من المسلمين من ديانتهم إلى غيرها بدعوى أنهم برابرة وليسوا عربا، وفضح سياسة الاستعمار الهولندي في إندونيسيا، مما ترتب عليه أن تراجعت هولندا وتنفس المسلمون بعضا من الحرية التي جعلتهم يحافظون على دينهم وهويتهم.
ووقف إلى جانب قضية فلسطين وناهض سياسة بريطانيا، ودافع عن حقوق المسلمين والعرب في فلسطين، وأهاب بهم جميعا أن يتحدوا ويتجمعوا على كلمة سواء ضد فكرة إنشاء وطن قومي لليهود، وبذل من ماله لمساعدة المجاهدين الذين انبروا للدفاع عن هذه البقعة المقدسة.
في السياسة.. وطني
نزل الأمير عمر طوسون معترك الحياة السياسية وشارك فيها مشاركة فعالة، مدفوعا بحبه لمصر والتزامه بقضاياها الوطنية، ولم يكن يشعر أن ثمة فارقا بينه وبين أحد من أبناء الوطن، فهو ينتمي إلى مصر ويشعر بمعاناة المصريين، ويحس بنير الاحتلال البريطاني كما يحسون، وجاءت أعماله تعبيرا عن المودة التي يكنها لوطنه والشعور بالمسئولية تجاهه، بل إنها فاقت أعمال بعض زعماء الوطنية ورجال الأحزاب، ولم يكن انتسابه إلى البيت الحاكم وانتظامه ضمن سلك الأمراء عائقا عن المشاركة الوطنية في أروع صورها.
وجاءت أول أعماله الوطنية إثر انتهاء الحرب العالمية الأولى، حيث دعا إلى تشكيل وفد مصري يناط به التحدث باسم مصر في مؤتمر فرساي سنة (1337هـ= 1918م) للمطالبة باستقلالها، دون نظر إلى حزب أو جماعة سياسية، وهو بذلك صاحب فكرة تأليف وفد مصري للتفاوض، فلما طرحها على سعد زغلول استحسنها ووعده بعرضها على أصدقائه، وبلغ من إعجاب سعد زغلول بهذا الاقتراح أن قال في مذكراته: "إن الأمير يستحق تمثالا من الذهب لو نجحت هذه المهمة" غير أن سعد زغلول انفرد بتأليف الوفد بعيدا عن صاحب الاقتراح الذي غضب لهذا التصرف، وكادت تحدث أزمة تهدد الصف ثم تغلبت المصلحة العامة على هذا الخلاف، وعاود سعد زغلول الاتصال بالأمير عمر طوسون، ووقف عمر طوسون إلى جانب ثورة 1919م، وأعلن هو وبعض الأمراء تضامنه مع الأمة، ومطالبتهم باستقلالها استقلالا تاما بلا قيد أو شرط، وكان قصره في الإسكندرية مركزا للعمل الوطني تصدر منه البيانات المؤيدة لحقوق الأمة.
السودان.. امتداد مصري
كان الأمير عمر طوسون يعد السودان امتدادا طبيعيا لمصر، وكتب ذلك في الصحف وضمنه كتبه ومذكراته، وكان لا يذكر السودانيين إلا بما يليق بهم، ويبدي إعجابه بكفاحهم وجهادهم. وحين شكلت لجنة لوضع الدستور المصري برئاسة حسين رشدي باشا سنة (1341هـ= 1922م) كتب إليهم قبل أن تبدأ أعمالها مذكرا بأهمية السودان واعتباره ضمن حدود البلاد كما كان قبل الاحتلال، وبوجوب تشكيل مجلس النواب من السودانيين والمصريين على حد سواء يعمل للمصلحة المشتركة التي لا انفصام لها أبدا، وكان لهذا الخطاب أثره في مناقشات لجنة وضع الدستور.
وكان يدعو دائما إلى وحدة الأمة واجتماع الشمل، ويكره الشقاق والخلاف، ولا يهدأ حتى تسكن الفتنة ويلتئم الصف، ويسعى إلى فض النزاعات بين الأحزاب المصرية، حتى لا ينفرط عقدها أمام الاحتلال البريطاني الذي كان يزكي هذه النزاعات ويشعل نارها.
رائد في كل نفع
وعمر طوسون من أكثر المصريين في العصر الحديث مشاركة في أعمال الخير، ويعد هو وأحمد باشا المنشاوي أكثر اثنين إنفاقا في المشروعات الخيرية، وحسبك أن تعلم أن المنشاوي باشا أوقف نحو ألف فدان على أعمال الخير والإصلاح، ولا تزال آثار يديه شاهدة على ذلك، ويندر أن تجد مشروعا نافعا في مصر إلا وللأمير عمر طوسون يد بيضاء عليه، ويأتي في مقدمة أعماله الخيرية ما فعله مع الجمعية الخيرية الإسلامية التي كانت تقوم بدور عظيم في مجال التعليم عبر مدارسها المنتشرة في أنحاء مصر، فحين تعثرت ميزانيتها بعد أن تأخر كثير من المساهمين فيها في دفع اشتراكاتهم ودعت أهل الخير للتبرع بالمال لاستكمال رسالتها كان الأمير عمر طوسون أول من استجاب لهذه الدعوة من المصريين وتبرع بمبلغ خمسة آلاف جنيه، وذلك في سنة (1339هـ= 1920م)، ولم يكتف بهذا بل دعا غيره للتبرع حتى وصل المبلغ إلى خمسة عشر ألف جنيه، فاستعانت به الجمعية في عملها.
ولفت نظره ما تعانيه الجمعية الخيرية القبطية من ضيق، فتبرع لها بألف جنيه، ودعا الأقباط إلى الاكتتاب لها كما دعا المسلمين إلى الاكتتاب لجمعيتهم، ونشر ذلك في الصحف، وجاء في دعوته: "والغرض الأقصى لي من ذلك أن أشرف على مضمار للخير في مصر بين الأخوين الشقيقين المسلم والقبطي، تتسابق فيه العزائم وتتبارى الهمم؛ لأنظر إلى أية غاية يجري الأخوان المتباريان".
كما تبرع لمدرستي البطركخانة والمشغل البطرسي على إثر زيارته للأنبا كيرلس بطريرك الأقباط الأرثوذكس بمبلغ من المال، يصرف من ريعه على الطلاب المتفوقين في المدرستين.
وشارك مشاركة فعالة في جمعية منع المسكرات التي أنشأها الدكتور أحمد غلوش، وكانت مصر قد ابتليت بانتشار الخمارات ومحلات بيع الخمور في أنحائها، الأمر الذي أفزع الغيورين، وكان غلوش واحدا من هؤلاء. وقد لقيت الجمعية عونا ظاهرا من طوسون، فأرسل في سنة (1349هـ= 1930م) إلى رئيس الوزراء ورئيس مجلس الشيوخ ورئيس مجلس النواب رسالة طالبهم فيها بالنظر في سن قانون يقضي بمنع تداول المسكرات في البلاد، وبعث إليهم بمشروع لهذا القانون، وترأس وفدا من الجمعية سنة (1353هـ= 1934م) لمقابلة الملك فؤاد، وعرض عليه مذكرة تطالبه بتحريم المسكرات في المملكة.
وشملت صلاته الخيرية عشرات الجمعيات في مصر، مثل جمعية الشبان المسلمين، والعروة الوثقى، والمواساة، والملجأ العباسي، ومشيخة العلماء بالإسكندرية، فضلا عن إعاناته المختلفة للمعاهد العلمية والأثرية والرياضية.
الجمعية الزراعية الملكية
تولى عمر طوسون رئاسة الجمعية الزراعية الملكية سنة (1351هـ= 1932م)، وكانت تعنى بشئون الزراعة في مصر والعمل على نهضتها، وقد أسسها السلطان حسين كامل وتولى رئاستها، ثم خلفه عليها الأمير كمال الدين حسين، وبعد وفاته تولى أمرها الأمير طوسون.
وقد نهض طوسون بالجمعية ووسع من دائرة عملها وكان لشغفه بالعلم وحبه للبحث العلمي أثر في توجيه الجمعية، فأجريت التجارب على مختلف الأراضي الزراعية وطرق إصلاحها وما يناسبها من الأسمدة، وأنتجت عدة سلالات من القطن والقمح والشعير، وأقيمت لأول مرة في مصر تحت إشرافه تجارب الصرف الجوفي وتأثيره على جذر النبات ونموه، واهتم طوسون ببحوث الحشرات، وأعلن عن تقديم جائزة مالية قدرها خمسة عشر ألف جنيه لمن يبتكر علاجا لإبادة دودة ورق القطن، وشجع الجمعية على إعداد كميات كبيرة من التقاوي الممتازة للمحاصيل الرئيسية لتوزيعها على المزارعين.
ويذكر له أنه أنشأ عددا من القرى النموذجية المزودة بالمرافق الضرورية، وأرسل إلى الحكومة المصرية كتابا يقترح فيه أن تبدأ برنامجا منظما لإصلاح قرى القطر المصري، واتجهت الجمعية أثناء رئاسته إلى نشر بعض المؤلفات العلمية المتصلة بالزراعة، مثل الحشرات الضارة في مصر لـ"ولكس"، وقوانين الدواوين لـ"ابن مماتي"، والأحوال الزراعية في مصر لـ"جيرار"، والخيول العربية للأمير محمد علي، فضلا عن المطبوعات التي تتضمن نتائج البحوث العلمية التي تقوم بها الجمعية.
مؤلفات واكتشافات أثرية!
كتاب البعثات العلمية
اتجه عمر طوسون إلى الكتابة والتأليف، ولم تشغله أعماله -على كثرتها- عن الإنتاج العلمي الغزير بالعربية والفرنسية، وموالاة الصحف ببحوثه العلمية الدقيقة، واستأثرت البحوث التاريخية والجغرافية والأثرية بإنتاجه كله، ودارت كلها حول مصر والسودان، فكتب عن الجيش المصري في عهد محمد علي كتابا بعنوان "صفحات من تاريخ مصر والجيش البري والبحري" تناول أحداثا حربية قل من يعرفها لعدم الاهتمام بها، مثل مشاركة مصر في الحملة العسكرية التي أرسلها نابليون الثالث إلى المكسيك، وذلك في عهد محمد علي والخديوي إسماعيل، وقد أبلت هذه الكتيبة المصرية بلاء حسنا، وفقدت نحو ثلث رجالها هناك، وقد سجل عمر طوسون بطولات هذه الكتيبة في كتابه "الأورطة السودانية المصرية في حرب المكسيك"، كما تناول تاريخ الجيش المصري الذي اشترك مع الدولة العثمانية في حرب القرم في كتابه "الجيش المصري في الحرب الروسية المعروفة بحرب القرم".
ولم يهتم الأمير عمر طوسون بالجانب العسكري وحده، بل تناول الصناعة في عصر محمد علي والبعثات العلمية التي أرسلها إلى أوروبا، وسجل ذلك في كتابه "الصنائع والمدارس الحربية في عهد محمد علي باشا" و"البعثات العلمية في عهد محمد علي وفي عهدي عباس وسعيد".
وكانت مسألة السودان من المسائل التي ظلت الشغل الشاغل لعقل الأمير طوسون، وألف فيها بالعربية والإنجليزية والفرنسية، مثل: المسألة السودانية، فتح دار فور، تاريخ مديرية الاستواء في ثلاثة أجزاء، وكان يرى أن السودان لازم لمصر ولا غناء لها عن الإشراف على النهر الذي تستمد منه الحياة.
ولطوسون جهود مشكورة في مجال الجغرافيا التاريخية، فقد ركز على مصر ونهر النيل فيما كتب، ومن مؤلفاته في هذا المجال كتاب ضخم بعنوان "مذكرة عن تاريخ النيل" تناول فيه منابعه ومجراه وأفرعه وفيضانه، واستعرض فيه آراء المؤلفين القدماء والمحدثين، وكتاب "جغرافية مصر في العصر العربي" وصف فيه الأدوار المختلفة التي مرت بها جغرافية مصر من الفتح الإسلامي حتى الفتح العثماني، مدعما أسانيده بما ذكره جغرافيو العرب ومقارنا بينهم.
وكما كان طوسون شديد الولع بمطالعة كل ما له علاقة بتاريخ مصر والسودان فقد كان مغرما بالبحث في مجال الصحراء، محبا للتنقيب عن الآثار، وكانت مدينة الإسكندرية وما حولها هي محل عنايته في البحث والتنقيب، فقام برحلات كثيرة إلى الصحراء الغربية، ودرس طبيعة هذه الجهات وما فيها من الواحات دراسة مستفيضة، ووفق إلى كشف آثار لها أهميتها، فاكتشف في أطلال بناء قديم في جنوب غرب واحة الدالة صليبا قبطيا من البرونز يرجع عهده إلى القرن الخامس أو السادس الميلادي، بالإضافة إلى بعض الأواني الفخارية الأثرية، كما اكتشف بقايا أديرة للرهبان في عرب وادي النطرون، وقد نشر عنها بحثا مستفيضا مع الصور الفوتوغرافية في مجلة الجمعية الملكية للآثار.
ومن اكتشافاته الهامة عثوره على رأس تمثال الإسكندر الأكبر بخليج العقبة، واكتشافه لبقايا مدينة مغمورة بالماء على عمق خمسة أمتار بخليج أبي قير سنة 1933، وقد نشر هذا الاكتشاف في مجلة الجمعية الملكية للآثار سنة (1353هـ= 1934م).
وفاته
كانت حياة الأمير مليئة بالأعمال الجليلة، وشغل وقته بالبحث والتأليف والمشاركة في العمل العام والإسهام بالرأي في قضايا الوطن، ولم يكن مثل معظم أفراد البيت المالك ممن شغلتهم حياتهم الفارغة عن الجد، بل كان قريبا من عامة المصريين، يعد نفسه واحدا منهم ويعمل على تحسين أحوالهم حسب قدرته.
وقبل وفاته بأكثر من عشر سنوات كتب وصية تخص مكتبته العامرة، وكان تضم نحو ثمانية آلاف مجلد من نفائس الكتب والمخطوطات والصور والخرائط، والتي يندر أن تجتمع عند أحد، وقد أوصى أن تهدى هذه المكتبة إلى المتحف الحربي والمتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية ومكتبة بلدية الإسكندرية (انظر نص الوصية).
وقد توفي الأمير عمر طوسون يوم الأربعاء (30 من محرم 1363هـ= 26 من يناير 1944م)، وكان قد أوصى ألا تقام له جنازة، ونفذ له الملك فاروق وصيته، مقتصرا على تشييع الجثمان الذي شارك فيه الوزراء والأمراء وكبار رجال الدولة.
********