لو قيل للواحد منا بماذا تشترى المغفرة؟ لقال أشتريها بكل ما أملك
من مال ومن ممتلكات ومن مقتنيات ، فإن المغفرة إذا حصلها
الإنسان وخرج للقاء الديان فقد فاز فوزاً مبيناً
ولو ملك الإنسان الدنيا بأكملها وكانت كلها في قبضة يده ولكنه
خرج منها بدون الحصول على المغفرة ماذا أخذ؟ وماذا فعل؟ إنه
يخرج منها بحسرة يموت منها الأولون والآخرون لو يعرفونها ،
لأنه ملكها كلها وتركها كلها ويحاسب عليها كلها ويبوء بخزيها
والندامة عليها جميعها ، ولم يحصل على ثمرة المغفرة التي هي كل
ما يبغيه الإنسان في دنياه وكل ما يطلبه لينال به السعادة في أخراه
إن الأمر الصريح من رب العالمين لنا هو أن نسارع ونتسارع
ونجري ونتنافس في ماذا يا ربَّ العالمين؟ في الدنيا؟ كلا ، في
الأموال؟ كلا وألف كلا ، في المناصب والدرجات الدنيوية؟ كلا ،
في ماذا نتنافس يا رب؟ {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}
المطففين26
نتنافس في منابر الأبرار ونتنافس في مقامات الصالحين ونتنافس
في منازل جنات النعيم ونتنافس في النعيم المقيم ونتنافس في البعد
عن الجحيم وما أدراك ما الجحيم ، ونتنافس في البعد عن الخزى
والندامة يوم الحسرة يوم القيامة ، ونتنافس في الجلوس على
الآرائك وما أدراك ما الآرائك {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ{23} تَعْرِفُ
فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ{24} يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ{25}
خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ{26} المطففين
نتنافس في الصالحات ونتنافس في الطاعات ، ونتنافس في القربات
، ونتنافس في كل ما يوصلنا إلى الله ويقربنا إلى معية رسول الله
صلى الله عليه وسلم هذا هو تنافس المؤمنين وهذا هو صراع
الموحدين ، فليس صراعهم على شئ يبلى لأنهم علموا أن كل ما
على الدنيا يفنى ولا يبقى مع الإنسان إلا ما عبر عنه الديان وقال:
{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} الكهف46
عرفوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم:
{أيُّكُمْ مالُ وارثِهِ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ مَالِهِ ، قالُوا: ما مِنَّا أَحَدٌ إلاَّ مالُهُ أَحَبُّ
إليهِ مِنْ مَالِ وارِثِهِ ، قالَ صلى الله عليه وسلم: إعْلَمُوا أنهُ لَيْسَ مِنْكُمْ
أَحَدٌ إلاَّ ومالُ وارثِهِ أحَبُّ إليهِ من مالِه ، مالُكَ ما قَدَّمْتَ ، ومالُ
وارِثِكَ ما أَخَّرْتَ}{1}
إن الذي خلفته إنما هو لورثتك ولكن الذي قدمته هو العمل الذي فيه
سعادتك والخير الذي فيه رفع درجتك والبر الذي فيه رفعة شأنك
في الميعاد والوصول إلى مقام يقول فيه رب العزة {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي
جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ{54} فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ{55} القمر
فالمؤمن يتنافس في الحصول على المغفرة ، شهادة محو الأمية أصبحت هي الأساس في
التعيينات الحكومية وغير الحكومية ولله المثل الأعلى ، وشهادة المغفرة هي أدنى الدرجات
التي لابد لك من الحصول عليها عند الخروج من هذه الحياة حتى تدخل على الأقل في
قوله {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} آل عمران185
حتى نتزحزح عن النار وندخل الجنة مع الأبرار ، وإذا لم تخرج من هذه الحياة ومعك
شهادة من العزيز الغفار بأنه قد غفر لك ذنوبك وستر عليك عيوبك فبماذا خرجت؟ لكنك
إذا خرجت من الدنيا ومعك شهادة بالمغفرة وليس معك إلا حسنة واحدة فقد فزت وسعدت
لأنه ليس عليك أوزار، وليس عليك ذنوب تثقل كفة السيئات ، وليس عليك ذنوب تجعلك
تزل في المشي على الصراط وليس معك ذنوب تجعلك تتناول كتابك بشمالك وليس معك
ذنوب تجعلك تمشي على وجهك ، وليس معك ذنوب تجعلك تجلس في أرض القيامة
والمؤمنون تحت ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله ، شهادة المغفرة هي ذخيرة
المؤمنين وهي ركيزة الموحدين لأنها هي السعادة العظمى مع رب العالمين عز وجل
{1} رواه مسلم في الصحيح عن أبي بكر بن أبي شَيْبَةَ وغيرِهِ عن أبي معاويةَ. وأخرجه
البخاري من وجهٍ آخرَ عن الأعمشِ، سنن الكبرى للبيهقي