تفسير قوله تعالى:
﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾
وقال - رحمه الله تعالى - في سياق الآيات في باب ذكر الموت وقصر الأمل:
وقال تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 16]
والآيات في الباب كثيرة معلومة].
قال سَماحة العلَّامةِ الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -:
قال المؤلِّف النوويُّ رحمه الله في كتابه رياض الصالحين، الكتاب الموافق لاسمه؛ فإنه رياض، رياض لأهل الصلاح
فيه من الأحكام الشرعية، والآداب المرعية، ما يزيد به إيمان العبد ويستقيم به سيرُه إلى الله عز وجل
ومعاملته مع عباد الله؛ ولهذا كان بعض الناس يحفظه عن ظهر قلب؛ لما فيه من المنفعة العظيمة.
هذا الكتاب كان من جملة أبوابه: باب ذكر الموت وقصر الأمل، وذكر المؤلِّف فيه آيات متعددة
سبق الكلام عليها، وآخرها قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ... ﴾ [الحديد: 16]
يعني ألم يأتِ الوقتُ الذي تخشع فيه قلوبُ المؤمنين لذِكر الله عزَّ وجلَّ؟
والخشوع معناه الخضوع والذل، ﴿ لِذِكْرِ اللهِ ﴾ يعني عند ذِكرِه
فإن المؤمنين ﴿ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2].
وقوله: ﴿ لِذِكْرِ اللهِ ﴾؛ أي: لتذكُّر الله وعظَمَتِه، ﴿ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ﴾؛ أي:
ويخشعون لما نزل من الحق، وهو ما كان في كتاب الله سبحانه وتعالى؛ فإن هذا الكتاب جاء بالحق
والنبي صلى الله عليه وسلم الذي نزل عليه هذا الكتاب جاء بالحق، فيحق للمؤمن أن يخشع قلبُه لذِكرِ الله وما نزل من الحق.
قال: ﴿ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [الحديد: 16]
يعني ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل، وهم اليهود والنصارى، فاليهود أوتوا التوراة
والنصارى أوتوا الإنجيل، ومع ذلك فإن اليهود كفروا بالإنجيل، والنصارى كفروا بالقرآن
فصار الكل كلهم كفارًا؛ ولذلك كان اليهود قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم مغضوبًا عليهم
لأنهم عَلِموا الحق، وهو ما جاء به عيسى، ولكنهم استكبروا عنه وأعرضوا عنه.
أما بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام، فكان اليهود والنصارى كلهم مغضوبًا عليهم
وذلك لأن النصارى عَلموا الحقَّ، فهم يعرِفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم
ومع ذلك استكبروا عنه، فكانوا كلهم مغضوبًا عليهم؛ لأن القاعدة في المغضوب عليهم
أنهم الذين عَلموا الحق ولم يعملوا به كاليهود والنصارى بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام.
هؤلاء الذين أوتوا الكتاب ﴿ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ ﴾ [الحديد: 16]
أي: الوقت ﴿ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [الحديد: 16]؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم
بُعِث بعد عيسى بستمائة سنة، وهي فترة طويلة انحرَفَ فيها مَن انحرَف من أهل الكتاب
ولم يبق على الأرض من أهل الحق إلا بقايا يسيرة من أهل الكتاب؛ ولهذا قال:
﴿ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 16]، ولم يقل: أكثرهم فاسقون، ولم يقل:
كلهم فاسقون، فكثير منهم فاسقون؛ خارجون عن الحق.
فحذَّر الله عز وجل ونهى أن نكون كهؤلاء الذين أوتوا الكتاب ﴿ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [الحديد: 16].
وإذا نظرت إلى الأمَّة الإسلامية، وجدتَ أنها ارتكَبتْ ما ارتكَبَه الذين أوتوا الكتاب من قبل
فإن الأمة الإسلامية في هذه العصور التي طال فيها الأمدُ من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم
قسَتْ قلوبُ كثير منهم، وفسَق كثير منهم، واستولى على المسلمين من ليس أهلًا للولاية لفسقه
بل ومروقه عن الإسلام، فإن الذين لا يحكمون بكتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ويَرَون أن الحكم بالقوانين أفضلُ من حكم الله ورسوله كفارٌ بلا شك، ومرتدُّون عن الإسلام.
ولكن الله سبحانه وتعالى يبلو الناسَ بعضَهم ببعض، وإذا صبر المؤمن واحتسب وانتظر الفرج
من الله عزَّ وجلَّ، وعمل الأسباب التي توصِّل إلى المقصود؛ يسَّر الله له الأمور.
فالمهم أن الله نهانا أن نكون كالذين أوتوا الكتاب من قبلُ فقسَتْ قلوبُهم، ولكن صار الكثير منا في الوقت
الحاضر متشبهًا بهؤلاء الذين قسَتْ قلوبهم، وكثيرٌ من هؤلاء أيضًا فسَقوا عن أمر الله وخرجوا عن طاعة الله.
ثم قال المؤلف: والآيات في هذا المعنى كثيرةٌ معلومة.
المصدر: «شرح رياض الصالحين» (3/ 454- 457).
سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين.