ستشربُ مما سقيتَ غيركَ!
روى ابنُ عساكر في تاريخِ دمشق، وابنُ الجوزيِّ في عيون الحكايات:
كان المنصور والياً على أرمينيا لأخيه أبي العباس، وقد جلسَ يوماً للقضاءِ بين الناس، فدخلَ عليه رجل، فقال له: إنَّ لي مظلمة، وأنا أسألكَ أن تسمعَ مني مثلاً أضربه لكَ قبل أن أذكر مظلمتي.
فقال له المنصور: قُلْ.
فقال: إن الله قد خلقَ الناس مراتب، فالصبيُّ إذا خرجَ إلى الدنيا لا يعرفُ إلا أمه، فإذا فزعَ من شيءٍ لجأ إليها، ثم يكبر، فيعرف أن أباه أقوى من أمه، فإذا خاف شيئاً التجأ إليه، ثم يكبر، فيعرف أن السلطان أقوى من أبيه، فإن ظلمه أحد لجأ إليه، فإن ظلمه السلطان لجأ إلى الله! وقد ظلمني واليكَ في ضيعةٍ لي، فإن نصرتني عليه، وأخذتَ لي حقي منه، شكرتُ هذا لكَ، وإلا لجأتُ إلى الله فاستنصرته عليك!
فقال له أبو جعفر: أَعِدْ عليَّ كلامكَ!
فأعاده من أوله.. فقال المنصور: أول شيءٍ أبدأ به أن أعزلَ الوالي، ثم بعد ذلكَ أردّ لكَ حقَّكَ!
عالِجْ قضاياكَ العالقة مع النَّاسِ قبل أن يرفعوا ملفَّ القضيةِ إلى اللهِ!
دعوات المظلومين سهامٌ صائبة، والله تعالى أَكرم وأعدل من أن تُرفعَ له قضية فلا يأخذ الحقَّ لصاحبها!
صحيح أن بعض القضايا لا تُحلُّ في الدُّنيا، وتبقى عالقة إلى يوم القيامة، فالدُّنيا ليست دار جزاءٍ أساساً وإنما هي دار امتحان، ولكن يا لتعْسِ من جاء يوم القيامة مكبلاً بقضايا الناس!
ولكن أغلب قضايا الظلم إنما ترجعُ إلى أصحابها في الدُّنيا، قلما ينجو ابنٌ عاقٌ من ولدٍ عاقٍ لاحقاً!
وقلما تنجو كِنَّة سيئة من شرِّ كنة أسوأ منها مستقبلاً!
وقد شاهدنا عياناً أنه كثيراً ما تسلّط قويٍّ على ضعيف، إلا ودارت الأيام وسلّط الله تعالى على هذا القوي من هو أقوى منه!
كثير من النِّعم التي سُلبتْ كان وراءها دعوة مظلوم، حسبَ الظالم أنها جولة قد انتهتْ، وحربٌ قد وضعتْ أوزارها بنصرٍ حافلٍ، وخرج منها مزهولاً بالنصر، أما المظلوم فما نسيَ، ظلَّ يتجرَّعُ مرارة الظلم في قلبه، فما سَجد إلا ودعا، وما انتهى الأذان إلا ودعا، وما هطل المطر إلا ودعا، ثم أصابتْ واحدة، خرجتْ ممزوجة بالألم والحرقة، زفرةً حارة، على هيئة كلمات: اللهمَّ إني مغلوب فانتصِرْ!
هذا الدعاء الذي حين أجابه الله تعالى أغرقَ الأرضَ عن آخرها!
فيا من أخذَ وظيفةً ليست له، تذكَّرْ أن الله قادر!
ويا من أسقط سمعات الآخرين ليتسلق صعوداً على ركامهم، استعِد سيكون السقوط مريعاً!
ويا من أكل ميراث إخوته، سمِّنْ لحماً من حرام للنار!
ويا من قذف عفيفةً في عرضها، الأيام دُوَلٌ!
ويا من مشى بالسحر والشعوذة وأفسد حياة الناس، الحربُ سِجال!
واللهِ، لو لقيَ العبدُ ربَّه بألفِ ذنبٍ بينه وبينه أهون ألف مرةٍ من أن يلقاه بذنبٍ واحدٍ بينه وبين الناس!
أدهم شرقاوي