في اللقاء الأول، عندما تأخذنا الصدفة إلى المواعيد الغير متوقعة، عندما نصادف شخصا يثير إعجابنا في اللحظة التي لم نخطط فيها لكل ما يثير هذا الإعجاب في دواخلنا، حينها نذوب في تفاصيل اللحظة، ونلعب على وتر الإمساك بالحبل الذي سيُعجّل بإيقاظ تلك المشاعر، والتي تُعلّمنا المواقف أن ندفنها، حينئذ تتملكنا رغبة قوية في الاقتراب من الغريب، ونحاول استكشاف خبايا شخصيته، وبقدر ما يكون هناك انسجام في ما يدور في الخفاء، تتعمد الفرصة أن تستولي على نصيبها مما منحتنا إياه، فلا نتردد في طلب المزيد، بعد ذلك تجتاحنا مشاعر قوية نحو الغريب الذي قد تدفعه الصدفة لأن يصير قريب، لنكون معه، لنشعر به، ونرغب في أن نستمتع بالحياة معه.
.
"
تمسكنا الحياة بعيدا عن تعقلنا وعقلانيتنا لتجعلنا نرى في الآخر فرصة النجاة، فنحاول بكل ما ملكنا من رغبة أن يكون الآخر من نصيبنا، وما أجمل أن يبادلنا هذا الشعور، أحيانا لا نجد ذواتنا إلا في الآخر أو مع الآخر
"
عادة ما تنطوي علاقاتنا الإنسانية على الغموض في بدايتها، لكن هذه البداية يمكن أن تحدد المصير الذي ينتظرها، فبقدر ما تكون المشاعر قوية فيها، وبقدر ما يكون الوضوح والصراحة موجودان بكل جرأة وصدق، وبقدر ما يكون الطرفان مستعدان للدخول في غمار أعقد التجارب الإنسانية، بهذا القدر يمكن تحديد مدى نجاح العلاقة وفشلها، ذلك أن غياب الصراحة والصدق والمشاعر القوية الصادقة، لن يجعل العلاقة تنتصر، ولن يكون النجاح حليفا لها، لأن العلاقات الإنسانية معقدة، فإذا أضفنا إليها تعقيدات أخرى مرتبطة بعدم ممارسة الصراحة، وعدم التأكد من المشاعر، وغياب الثقة، فتلك أمور تُعقد من هذه العلاقة، وتجعل فشلها وارد لا محالة، فإذا كانت العلاقات الإنسانية محكومة بهذا الغموض، كان من الحكمة أن نمارس ما يليق بالإنسان في هذا الصدد، وأفضل ما يمكن للمرء أن يمارسه هو الصدق والصراحة، ومحاولة تدريب النفس على ذلك قد تفي بالغرض، وتجعلنا نقتنع بمن قررنا أن نشاركهم جزء من حياتنا، ولما لا كلها.
نحن البشر محكومون برغبة غريبة في الجنس الآخر، هذه الرغبة تدفعنا للبحث عن الآخر، أحيانا نقوم بالأمر بإرادتنا في اللحظة التي يُظهر فيها الآخر نفس الإرادة، وأحيانا أخرى تتدخل الصدفة لكي تمارس نصيبها من الإغواء، وحيال الصدفة لا نملك إلا أن نغامر، لكن من الحكمة أن نؤسس لهذه المغامرة على مشاعر صادقة، وأن يكون لنا من الجرأة ما يكفي لكي نعبر عن هذه المشاعر، أو أن نقول الصراحة عندما لا تعجبنا الصدفة، وأن لا نمارس دور الصادق من أجل نزوات لا تليق، حتى لا ندخل في سياق تعريف الحب بالكذبة الصادقة، ذلك أن اللعب بمشاعر الآخرين صعب ومعقد، فقد نفوز باللعبة، وسنخسرها في اللحظة التي ستكون الأمور قد خرجت عن سيطرتنا. أحيانا تصير هذه المشاعر مجرد لعبة ينتهكها البشر بقسوتهم، والواقع يؤكد على أنها ليست أكثر من لعبة يمارسها من يفقد السيطرة على سلوكه، إلا أن المشاعر في الحقيقة، المشاعر الصادقة، يجب أن نكون مستعدين للتعبير عنها والدفاع عنها، والمغامرة من أجلها، حتى نمسك بالحياة في قلوبنا.
تمسكنا الحياة بعيدا عن تعقلنا وعقلانيتنا لتجعلنا نرى في الآخر فرصة النجاة، فنحاول بكل ما ملكنا من رغبة أن يكون الآخر من نصيبنا، وما أجمل أن يبادلنا هذا الشعور، أحيانا لا نجد ذواتنا إلا في الآخر أو مع الآخر، رغم أن الأصل في إيجاد الذات يتأسس على ذواتنا، لكن ما يتملكنا صوب الآخر يجبرنا على التنازل عن كل ما يُمثّلنا، لكي نهب ذواتنا فرصة الظهور انطلاقا مما نحسه مع الآخر، ولعل هذا الإحساس يستعصي على الفهم، فلا نملك إلا أن نتمادى ونطلب هذا الإحساس بكل ما فيه من رغبة، وفي النهاية لا يكون من نصيبنا إلا تلك الأحاسيس الصادقة، أما ما عدا ذلك، فسرعان ما ينجلي في غياهيب النسيان، لأنه لم يكن مبنيا على نظرة عميقة إلى الروح الانسانية، بقدر ما كان نظرة جسدية تزيح عن الأحاسيس قداستها.
ربما الوقت كفيل بأن يدفعنا لنتقبل كل ما نرفضه، في مقابل أن نرفض كل ما كان يبدو لنا من المستبعد أن نخوض فيه، ولعل لعبة المشاعر عسيرة للغاية، ومن الصعب التكهن بما تنطوي عليه من إرادة، فهي تدفعنا تارة لنطلب المزيد رغم أننا ندرك تماما هزيمتنا، وأحيانا تشجعنا على التراجع في الوقت الذي يكون كل شيء متاحا لنا، لكن الأفضل فيها هو أنه عندما تكون مبنية على أساس صادق، الأساس الذي نستشعر أنه متبادل ولو كان غير واضح، هذا الشعور قد يكون صائب وقد يكون غير ذلك، لكننا مجبرون على اتباع أحاسيسنا عندما تجذبنا بقوة، لأنها في الغالب تنطوي على حقيقة لا ندركها إلا بعد أن نجد الطرف الآخر متورطا فينا بكل رفض، فبقدر ما نرفض الآخر أو يرفضنا، بقدر ما نتورط فيه، وبنفس القدر نجد ذواتنا متعلقة به، في انتظار أن نتمكن من تقبل الخسارة وتحملها، أو أن نفوز بالمعركة بكل ما فيها من تمرد وعصيان، وبكل ما تخبئه من حب، وبكل ما تدفعنا به إلى طلب المزيد.
تنهي روابط المحبة بشكل مؤسف خصوصا عندما نخوض هذه العلاقات بدون اقتناع، وبدون يقين تام من قدرتنا على الحب، فنضطر إلى ممارسة البروتوكول المتعارف عليه في هذا الصدد، إلى أن يحين وقت الرحيل، فننتظر الأسباب التي يمكن أن تعجل بهذا الرحيل، ثم ما ننفك نرسل ما كذبنا بشأنه إلى الضياع، وننتظر من يبادر أولا لإصلاح هذا الضياع، وبين أحضان هذا الانتظار تضيع علاقتنا، ونضيع في اكتساب القدرة على امتلاك أصدق المشاعر.
دمتم بود ..
الموضوع الأصلي :
صدق الاحساس || الكاتب :
همسه الشوق || المصدر :
شبكة همس الشوق