القلب وعاء يحتاج إلى الرعاية لما قد يعتريه من صنوف الدرن والغبش التي تذهب بنضارته وتشل حيويته، وهو لب الجسد الذي بصلاحه يصلح الجسد كله، لذلك كان حقه في الرعاية آكد ومزيد وصله بالاهتمام زائدا، والكلمات النورانية والنصائح الجلية من أنفع الوسائل للقلب، ومن أعظم وسائل ثباته، وهل مشكلة القلب إلا في تقلبه، فاللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك.
قال أحد الصالحين: عليك يا أخي بمحاربة الشيطان وقهره، وذلك لخصلتين:
( أحدهما ) أنه عدو مضل مبين، لا مطمع فيه بمصالحة واتقاء شره أبدا، لأنه لا يرضيه ويقنعه إلا هلاكك أصلا، فلا وجه إذا للأمن من هذا العدو والغفلة عنه، قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [يس:60] وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6].
( والخصلة الثانية ) أنه مجبول على عداوتك، ومنتصب لمحاربتك، في الليل والنهار يرميك بسهامه، وأنت غافل عنه، ثم هو له مع جميع المؤمنين عداوة عامة، ومع المجتهد في العبادة والعلم عداوة خاصة، ومعه عليك أعوان: نفسك الأمارة بالسوء، والهوى، والدنيا، وهو فارغ وأنت مشغول، وهو يراك وأنت لا تراه، وأنت تنساه وهو لا ينساك، فإذا لابد من محاربته وقهره وإلا فلا تأمن الفساد والهلاك والدمار، ومحاربته بالاستعاذة بالله والإكثار من ذكره.
عباد الله .. سيصحو السكران من سكره، حين لا يمكنه تلافي أمره، وسيندم المضيع على تضيعه، إذا قابله أمر صنيعه، وسيقصر الأمل من أمله وقت هجوم أجله، وتعذر الزيادة في عمله، والخروج من بين ماله وأهله .. هنالك يستحيل حلو العيش مرا، وينقلب عرف الأمر نكرا، ويعلم جامع الحطام الذي أضاع به أوقاته أن الباقيات الصالحات أبقى ذكرا وأنفع ذخرا، ليس في ظل الدنيا ولا على هذه الحياة تعويل.
كيف يطمع عاقل في الإقامة بدار الرحيل؟، كيف يضحك من هو محفوف بموجبات البكاء والعويل؟، أسمعنا الناصح فتصاممنا، وأيقظنا الغير فتناومنا، ورضينا بالحياة الدنيا من الآخرة، واشترينا ما يفنى بما يبقى، فتلك إذا صفقة خاسرة.
أين الآذان الواعية، أين الأعين الباكية، قول بلا فعال وأمر بلا امتثال، رسل ملك الموت في كل نفس تدنوا إلى أنفسنا، وأجساد أحبتنا تحت أطباق الثرى هامدة .. قد أوحشت منهم ديارهم، ودرست رسومهم وآثارهم، وتقطعت بالبلاء أوصالهم، ومحت أيدي الحوادث والقبور محاسن تلك الصور، وأطبقت عليهم ظلمات تلك الحفر، فلا شمس فيها ولا نور ولا قمر، ونحن عما قريب إلى ما صاروا إليه صائرون، وبالكأس الذي شربوا منه شاربون، ثم مع هذا اليقين إلى دار الغرور راكنون.
عباد الله .. انتهزوا فرص الزمان، قبل تعذر الإمكان، قبل أن تنقل من اسم مازال إلى خبر كان ، فانتبه يا من نظنه صاح وإذا هو سكران.
عباد الله .. كيف يثق بالحياة مَن المنية تقفوا إثره وتقف له في دربه، كيف يرجو راحة الدنيا من لا راحة له دون لقاء ربه .. تالله لو كانت الدنيا صافية المشارب من كل شائب، ميسرة المطالب لكل صالب، باقية علينا لا يسلبها منا سالب، لكان الزاهد فيها هو اللبيب الصائب، لأنها تشغل عن الله، والنعم إذا أشغلت عن المنعم كانت من المصائب.
عباد الله .. لقد تراكمت عليكم الذنوب، وأنتم في غيكم ولهوكم في دنياكم مشتغلون، أحاطت بكم البلايا من كل جانب ولستم لإصلاح أنفسكم تجنحون، كلما أوضح لكم الواعظ طريق الهداية تعاميتم فلا أنتم بالكروب معتبرون ولا من البلايا منزجرون، أما سمعتم قول الله جل وعلا: {فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:44-45] وقوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3] وقوله عز وجل: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55-56].
روي عن على بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: "لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة لطول الأمل، ويقول في الدنيا بقول الزاهدين، ويعمل فيها عمل الراغبين، إن أعطي من الدنيا لم يشبع، وإن منع منها لم يقنع، ويأمر الناس بما لا يأتيه، يحب الصالحين ولا يعمل أعمالهم، ويبغض المسيئين وهو منهم، يكره الموت لكثرة ذنوبه، ويقيم على ما يكره له الموت، إن سقم ظل نادما، وإن صح أمن لاهيا، تغلبه نفسه على ما يظن ولا يغلبها على ما يستيقن، ولا يثق من الرزق بما ضمن له، ولا يعمل من العمل بما فرض عليه، إن استغنى بطر، وإن افتقر قنط وحزن، فهو من الذنب في حال النعمة والمحنة موقر، يطلب الزيادة ولا يشكر، ويتكلف من الناس مالا يؤمر، ويضيع الموت ولا يبادر الفوت، يستكبر من معصية غيره ما يسهل أكثره من نفسه، مزاهر اللهو مع الأغنياء أحب إليه من الذكر مع الفقراء، يحكم على غيره لنفسه ولا يحكم عليها لغيره".
أخي انظر في نفسك هل تجدها عاملة بمقتضى هدي سيد المرسلين؟ هل أتيت بالصلاة على الوجه الأكمل واجتنبت المعاصي المنافية للدين؟ هل أديت الزكاة كاملة مكملة بيقين؟ هل تجد في نفسك حياء من الله رب العالمين؟ هل أنت سالم من الكذب والخيانة والاحتيال؟ هل أنت سالم من الرياء في أقوالك وأعمالك؟ هل أنت سالم من الربا في معاملاتك؟ هل أنت سالم من المداهنة والنفاق؟ هل أنت سالم من الغيبة والنميمة والبهت واللعن وسيء القول؟.
هل أنت سالم من الغش في بيعك وشرائك وسائر تصرفاتك؟ هل أنت صائن لسانك عن ما يضرك من الأقوال والأعمال؟ هل أنت سالم من الكبر والإعجاب وقطيعة الرحم والعقوق؟ هل أنت سالم من أذية الجار؟ هل قلبك لين رحيم ترحم المسكين وتكرم اليتيم؟ فعليك أن تتفقد نفسك بدقة، وتعالج ما بك من هذه الأمراض المهلكات فإنها أشد ضررا وفتكا من أمراض البدن.
يا أخي التوبة التوبة قبل أن تصل إليك النوبة، الإنابة الإنابة قبل أن يغلق باب الإجابة، الإفاقة الإفاقة فيا قرب وقت الفاقة، إنما الدنيا سوق للتجر ومجلس وعظ للزجر وليل صيف قريب الفجر، المكنة مزنة صيف، الفرصة زورة طيف، الصحة رقدة ضيف، الغرة نقدة زيف، البدار البدار فالوقت سيف.
يا غافلا عن مصيره، يا واقفا في تقصيره، سبقك أهل العزائم وأنت في اليقظة نائم، قف على الباب وقوف نادم، ونكس رأس الذل وقل أنا ظالم، وناد في الأسحار مذنب وواجم، وتشبه بالقوم وإن لم تكن منهم وزاحم، وابعث بريح الزفرات سحاب دمع ساجم، قم في الدجى نادبا، وقف على الباب تائبا، واستدرك من العمر ذاهبا، ودع اللهو والهوى جانبا، وإذا لاح الغرور رأى راهبا، وطلق الدنيا إن كنت للأخرى طالبا.