ثم انتقلت السورة إلى الكلام عن بني إسرائيل، وقد أطالت النفَس في ذلك في أكثرَ من مائة آية، من قوله تعالى: ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ﴾ [البقرة: 40]، إلى قريب من منتصف السورة، فصَّلت الكلام عنهم تفصيلًا تامًّا؛ لتجلية طبيعة أولئك القوم وأحوالهم، وما هم عليه من الكفر والعتو والعناد وقبيح الصفات، والجرأة على الله تعالى، والتحايل والتحريف وتبديل القول، والحسد للمسلمين، وغير ذلك؛ ليحذر المسلمون منهم ومن مسالكهم السيئة.
2) وقد بدأت هذه الآيات بتذكير بني إسرائيل نعمةَ الله تعالى عليهم، وحثهم على الوفاء بعهد الله، ورهبته وتقواه، والإيمان بالقرآن المصدِّقِ لما معهم، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ونهيهم أن يكونوا أول كافرٍ به، وأن يشتروا بآيات الله ثمنًا قليلًا، وعن لبس الحقِّ بالباطل، وكتمان الحق، وتقريعهم على أمرهم الناسَ بالبِرِّ ونسيان أنفسهم.
3) تأكيد تذكيرهم بنعمة الله عليهم، وتفضيله إياهم على عالَمِي زمانهم، وتخليصهم من آل فرعون وعذابهم، وفَرْق البحر لهم، وإنجائهم من الغرق وإغراق آل فرعون، وعفو الله عنهم، وتوبته عليهم بعد عبادتهم العِجلَ، وإيتاء موسى الكتابَ والفُرقان لأجل أن يهتدوا به.
4) جرأتهم على الله بعد أن وبَّخهم موسى على عبادة العجل وتاب الله عليهم بقولهم: ﴿ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ﴾ [البقرة: 55]، وأخذ الصاعقة لهم، ثم بعثهم من بعد موتهم ليشكروا، وتظليل الغمام عليهم، وإنزال المَنِّ والسَّلْوى.
5) أمرهم بدخول القرية سُجَّدًا وقول: "حِطَّة" لمغفرة خطاياهم، وتبديلهم قولًا غير الذي قيل لهم، وظلمهم لأنفسهم، وإنزال الرِّجز عليهم.
6) استسقاء موسى عليه السلام لهم، وأمره عز وجل له أن يضرب بعصاه الحَجَر، وانفجار العيون لهم، وإدرار الرزق عليهم، ومن ثم كفرهم وبَطَرهم نِعَمَ الله تعالى عليهم بقولهم: ﴿ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ ﴾ [البقرة: 61]، واستبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير، وعقوبتهم بضرب الذِّلَّة والمَسْكنة عليهم، وغضب الله عليهم؛ لكفرهم وقتلهم النبيِّين.
7) بيان أن كل من آمَن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا من أي طائفة كانت، فلهم أجرهم عند ربِّهم وثوابُهم.
8) أخذ الميثاق على بني إسرائيل ورفع الطور فوقهم لأخذ ما أُوتُوهُ بقوة وذِكر ما فيه، وتولِّيهم بعد ذلك.
9) تذكيرهم باعتدائهم في السبت، وفضل الله عليهم، وحمايته لهم من الخسران، ومَسْخهم قردةً خاسئين، وجعل عقوبتهم نكالًا لهم ولغيرهم.
10) تشديدهم على أنفسهم في أمر البقرة، وقسوة قلوبهم، وبُعدهم عن الإيمان، وتحريفهم الكَلِمَ عن مواضعه، ونفاقهم وجهلهم، وبيان إحاطة علم الله تعالى بما يُسِرُّونَ وما يعلنون.
11) توعدهم بالويل لكذبهم وافترائهم على الله بكتابتهم الكتابَ بأيديهم، ثم قولهم: ﴿ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾ [البقرة: 79]، وتأكيد وعيدهم ثانية وثالثة؛ بسبب ما كتبت أيديهم وكسبهم الباطل.
12) غرورهم وتزكيتهم لأنفسهم، وزعمهم أن النار لن تَمَسَّهم إلا أيامًا معدودة، والرد عليهم، وإبطال زعمهم، وقولهم على الله بلا علم، وبيان أن من عمل عملًا جُوزِيَ به أيًّا كان.
13) أخذ الميثاق عليهم ﴿ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ﴾ [البقرة: 83]، وأن يقولوا للناس حسنًا، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وتوليهم إلا قليلًا منهم وهم معرِضون.
14) أخذ الميثاق عليهم بعدم سفك دمائهم، وإخراج أنفسهم من ديارهم، وإقرارهم وشهادتهم على ذلك، ثم نقضهم ميثاقَهم وقتل بعضهم لبعض، وإخراج فريق منهم من ديارهم بالإثم والعُدْوان، وشراؤهم الحياة الدنيا بالآخرة، وتوعُّدهم بردِّهم إلى أشد العذاب، فلا يُخفَّفُ عنهم العذاب ولا هم يُنصرون.
15) بيان قيام الحجة عليهم بإيتاء موسى الكتاب، وتتابُع الرسل بعده منهم، وإيتاء عيسى بن مريم البيِّناتِ، وتأييده برُوح القُدُس، وكلُّ ذلك لم ينجع فيهم، فاستكبَروا عما جاءتهم به الرسل، ففريقًا كذَّبوا وفريقًا يقتُلون، وزعموا أن قلوبهم غُلْفٌ ﴿ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 88].
16) كفرهم بالقرآن المصدِّق لما معهم بعد معرفتهم له أنه من عند الله وحقٌّ وصدق؛ بغيًا وحسدًا، وغضب الله عليهم وتوعدهم بالعذاب الأليم.
17) زعمهم الكاذب أنهم يؤمنون بما أُنزِل إليهم ويكفُرون بما وراءه، فكيف يكفرون بالقرآن وهو الحقُّ مصدقًا لما معهم؟ ولِمَ يقتُلون أنبياء الله لو كانوا حقًّا مؤمنين؟!
18) ذمُّهم باتخاذهم العِجلَ مع ما جاءهم به موسى عليه السلام من البيِّنات على وحدانية الله تعالى، ووجوب إخلاص العبادة له وحده.
19) تذكيرهم بأخذ الميثاق عليهم، وتهديدهم برفع الطور فوقهم؛ ليأخُذوا ما آتاهم الله بقوة ويسمعوا، وعتوهم وتجبُّرهم وعنادهم، وقولهم: ﴿ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ﴾ [البقرة: 93]، وتعلُّق قلوبهم بحبِّ العجل والشِّرك بالله، فأين هم من الإيمان؟!
20) زعمهم الباطل أن لهم الدارَ الآخرة عند الله خالصةً من دون الناس، والرد عليهم، وتحدِّيهم بتمنِّي الموت إن كانوا صادقين بهذا الزعم، وبيان أنهم لن يَتمنَّوْهُ أبدًا بسبب ما قدَّمتْ أيديهم من الكفر والظلم، وموجبات سخط الله وعذابه، وبيان أنهم أشد الناس حرصًا على الحياة.
21) عداوة اليهود لجبريل عليه السلام، وأن الله عدوٌّ لهم ولعموم الكافرين، قال تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 98].
22) تكذيبهم الرسولَ صلى الله عليه وسلم المصدِّقَ لما معهم، ونبذُهم كتابَ الله تعالى القرآن الكريم وراء ظهورهم، وهم يعلمون صِدقَه وصدق ما جاء به.
23) اتباعهم ما تتلو الشياطينُ على مُلكِ سليمان من السِّحر، وتعلُّمهم ما يضرُّهم ولا ينفعهم، مع علمهم بأنه كفر، لا خلاق في الآخرة لمن اشتراه واعتاض به عن الإيمان.
24) خبث اليهود وتوريتهم بقولهم للرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿ رَاعِنَا ﴾ [البقرة: 104] بوصفه بالرعونة، ونهيُ المؤمنين عن هذه المقالة، وأمرهم أن يقولوا: ﴿ انْظُرْنَا ﴾ [البقرة: 104]؛ بعدًا عن اللَّبس ومشابهة اليهود.
25) حسدُهم للمؤمنين ومودَّتُهم هم والمشركون أن لا ينزل على المؤمنين أيُّ خير من ربِّهم ﴿ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [البقرة: 105].
المصدر: « عون الرحمن في تفسير القرآن »