إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفِره ونتوب إليه، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسِنا وسيئات أعمالنا، مَن يَهدِه الله
فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله
صلى الله وسلَّم عليه وآلِه وأصحابه وأتباعه على ملَّته وشريعته إلى يوم الدِّين، أما بعد:
فيا أيها الناس، أوصيكم ونفسي بتقوى الله فإنها خير زاد وخير لباس، وإن المتَّقين عند الله - تبارك وتعالى -
أكرم الناس، وهم المَقطوع لهم بالإنجاء مِن النار ووراثة الجنَّة من الناس.
عباد الله، البركة هي: كثرة الخير وثبوته في الشيء ونماؤه وزيادته، والتبارُك ثَناء أثنى الله به على نفسه، ومِن فعله وإحسانه
أن يجعل البركة في الشيء مِن أمره وخَلقِه فيجعله مُبارَكًا، تُنال البركة بالتبرُّك به، ولقد تكرَّر في التنزيل الكريم، والذِّكر الحكيم
ذكْر التبارُك مُضافًا إلى الله: ﴿ تَبَارَكَ اللَّهُ ﴾ [الأعراف: 54] خبرًا ووصفًا وفِعلاً في سياقات مُتنوِّعة؛ فورَد في سياق بيان عموم ربوبيته
-تعالى- للخَلقِ عامَّة، ولأهل الإيمان بالله -تعالى- المُخلِصين له مِن الخَلق خاصَّة؛ قال تعالى:
﴿ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا ﴾ [الفرقان: 61]، وجاء كذلك في سياق الاستِدلال بعظمة
خَلقِ السموات والأرض وما بينهما - وما في ذلك مِن آيات العِلم والقُدرة، ومعالم الحِكمة والقوَّة، وبراهين واسع الفضْل والرحمة
- في ستة أيام، ثم استوائه - سبحانه وتعالى - على العرش الذي هو سقف المخلوقات وأعلاها، وهو أعظم وأكبر وأوسع المخلوقات
ومنه يَنزِل وإليه يُرفع أمر الخَلق والمُلْك، إلى غير ذلك من وجوه عظمة هذا العرش الكريم، وأن خَلقه واستواء الله -تعالى-
عليه مِن أعظم موجبات إفراده -تعالى- بالإلهيَّة والعبادة؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ....﴾ [الأعراف: 54] الآية.
وورد في سياق إنزال الفُرقان، الذي فرَّق الله به بين الحق والباطل، وبه تستنير البصائر، وتَصلُح السرائر، ويَهتدي الحائر
وتقوم به الحُجَّة على كل مُشرِك كافر، ومُنافِق خاسر؛ قال تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 1]
ففرَّق - سبحانه - به بين الهُدى والضَّلال، والحق والباطل والحلال والحرام؛ فتبارك وتعالى بإنزاله الهداية به.
أيها المسلمون، وورَد التبارُك كذلك في سياق الامتِنان على العِباد بحسن خَلقِهم، وجمال صُوَرهم، وتسخير الأرض لهم وما رزَق الله -تعالى-
مِن الطيبات: ﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ... ﴾ [غافر: 64] الآية.
عباد الله، واسم الله - تبارك وتعالى - أعظمُ ما يُتبرَّكُ به؛ فإنه تحلُّ البركة بذكْرِه ومعه؛ قال تعالى: ﴿ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 78]
ولهذا تُشرَع التسمية في مقامات كثيرة، ومُناسَبات شَهيرة، جاء في نصوص عدَّة مشروعيةُ التسمية عندها أو معها؛ لتحلَّ البركة فيها
- بذكْر اسمه - وتُحقَّق العِصمَة مِن الشيطان وكلِّ الشرِّ وأهله، فتُشرَع التسمية عند الدخول والخُروج، والأكل والشُّرب، والطُّهور، واللبس
والخَلع، والجِماع، والنوم، والتعرُّض لأمر مُؤذٍ أو توقُّع مَخوف، ونحو ذلك مما جاءت النصوص بالتسمية عند البداءة به أو الدخول فيه.
أيها المسلمون، وكما أن اسم الله مُبارَك تحلُّ البركة بذِكْره ومعه، ففي كلامه - سبحانه - وما شرَعَه مِن دينه وشَرعِه، وما جعل الله البركة
فيه مِن خَلقِه - ما يُتبرَّك به وَفْق شَرعِه، فتُنال البركة منه به؛ فالقرآن ذِكْر مُبارَك تُستجلَب به البركة، فهو ذِكْر وضياء
وتَبصِرة وذِكرى، ومَوعظة وشفاء، وإلى كل سَبيل أقوم هُدى؛ يقول تعالى: ﴿ وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ ﴾ [الأنبياء: 50]
ويقول سبحانه: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ﴾ [ص: 29].
معشر المسلمين، وتحية المؤمنين السلام، تحيَّة طيبة مُبارَكة تحلُّ بها البركة، ويُستجاب الدُّعاء، وتَنتشِر المحبَّة والمودَّة، يُلقيها المسلم
على أهله وذويه وأهل ملَّته، يقول: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته" فيردُّونها عليه أو يَزيدون دعوة صالِحة، كذلك عملاً بقوله تعالى:
﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ﴾ [النساء: 86]، وقال سبحانه: ﴿ فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ﴾ [النور: 61]
وأرشد النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- المسلمَ إذا دخَل بيته أن يُسلِّم على مَن فيه؛ فيكونَ برَكة عليه وعلى أهله.
معشر المسلمين، وهكذا صِلة الرحم من الأعمال الميمونة التي تُنال بها البركة، ويُتَّقى بها الضرَر والنقْص
يقول -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن أحبَّ أن يُنسأ له في أثره، ويُبسَط له في رِزقه، ويُبارَك له في عمره؛ فليَصِلْ رَحمه))
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: ((صِلة الرحم بركة في الرزق، ومَنسأة في الأثر، ومحبَّة في الأهل)).
أيها المؤمنون، وهكذا جميع الطاعات المَفروضات والمستحَبات، وترك السيئات، والتوبة إلى الله -تعالى- مِن أنواع الخطيئات
والكبائر المُوبِقات، مِن خِصال التقوى التي تَتنزَّل بها البركات، وتُدفَع بها الشُّرور والمُهلِكات؛ يقول الله تعالى:
﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 96]، ويقول سبحانه:
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾ [المائدة: 66].
وهكذا معاشر المؤمنين جعل الله - تبارك وتعالى - في الأرض أماكن مُبارَكة، تُنال البركة بقَصدِها وتعظيمها واحترام حُرمتِها
والتعبُّد لله - تبارك وتعالى - بما شرع فيها؛ كالمسجد الحرام، ومَواقِع المناسِك العِظام، ومسجد النبي - عليه الصلاة والسلام -
والمسجد الأقصى ثالث المساجد العظيمة التي أُسِّست على التقوى، وبُنيت بأيدي الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فالْتَمِسوا البركة بقَصدِها
وزيارتها، والتعبُّد لله -تعالى- بما شرع فيها مِن تَعظيمها واحترامها وتنزيهِها عمَّا لا يُشرع فيها مِن الشِّرك والبِدَع، واستِحسان مَن ابتَدع.
معشر المؤمنين، وهكذا من عباد الله مَن جعله الله مُبارَكًا على نفسه وأهله ومَن اتَّبعه واقتَدى به على هَدْيه، وفي طليعة أولئك رُسل الله
- تبارك وتعالى - وأنبياؤه - عليهم الصلاة والسلام - ومَن اقتدى بهم على هُداهم، ممَّن شرَع الله لهم اتِّباعَهم؛ قال تعالى:
﴿ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ.... ﴾ [هود: 48] الآية، وقال تعالى - في إبراهيم وآله -:
﴿ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ﴾ [هود: 73]، ولذلك صار بيتُ إبراهيم - عليه السلام - أشرَف بيت في الأرض على الإطلاق
فلم يُبعَث بعده نبيٌّ ولم ينزل كتاب إلا في ذريتِه باتِّفاق؛ قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ... ﴾ [العنكبوت: 27] الآية.
وهكذا نقول في التشهُّد في الصلاة: "اللهمَّ بارِك على محمَّد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد".
أيها المؤمنون، مِن ذرية إبراهيم - عليه السلام - عيسى ابن مريم - عليه السلام - الذي أخبَر عن نفسِه بقوله: ﴿ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا
وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ﴾ [مريم: 30 - 32].
وهكذا كل مَن اتَّبع مَن لزمه اتباعُه مِن النبيِّين والمُرسَلين على ما جاؤوا به من العمل والهُدى، وتقرَّب إلى الله -تعالى- بفرائض الطاعات
وتَركِ السيئات، والتوبة إلى الله -تعالى- مِن الخطيئات، وهَدى عباد الله إليه بالعلم والعمل، وكفَّ أذاه عن الخَلق بغير حق وأحسن
- جعَله الله مُباركًا أينما كان وأسعده وجعَله في عِصمة مِن الشرِّ ومِن كل شيطان، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا... ﴾ [النساء: 66] الآيات.