مَن صحب الناس واختار عشرتهم لن يسلم من زلاتهم عليه وهفواتهم نحوه، فالخلطة مظنة الزلة، والعشرة عرضة للهفوة:
أردت لـــكي مـــا لا ترى لـي عثرةً ومــــَنْ ذا الذي يُعطى الكمالَ فيكمل
والخطأ كما يصدر من الأباعد فإنه قد يردك من أقرب قريب:
ولســــتَ بمـــســتبــقٍ أخــاً لا تلمـّه
على شـــــعثٍ، أيُّ الرجالِ المهذبُ؟
وإذا كان من الناس من إذا أخطأ على غيره أخذته العزة بالإثم، ومضى لا يلوي على شيء مصراً على خطئه، ظاناً أن اعتذاره سيسقط من مكانته ويهوي بكرامته، فإن منهم من تحلّى بأخلاق الكرام وشيم النبلاء، فإذا صدر منه خطأ، أو زلّت به القدم على غيره جاء إليه مطرق الرأس لايكاد يرفع رأسه حياء، يتمتم بكلمات تفيض حسرة وندماً على الخطأ، قد أقر بزلته، واعترف بهفوته، وطلب السماح، والتمس الصفح، ونشد المعذرة، وقال لمن أخطأ عليه: (سامحني أنا آسف) يقولها والخجل يقطع حروفها.
إنّي ندمـــتُ علــى مـا كـان من زللٍ وزلـــّةُ الـــمــرءِ يمــحوها تندّمـــه
سؤالي لك أيها القارئ: من جاء إليك بهذه الحال من الندم والاعتراف بالخطأ، وطلب الصفح بعدما لحقك منه الضرر، ونالك منه الأذى، كيف سيكون موقفك منه؟ أعلم أن الإجابة ستختلف بين الناس بحسب تباين منازلهم من مكارم الأخلاق ومدى تضلعهم من صفات النبل وشيم الفضل، فأما كرام الناس فإنهم يقبلون عذر المعتذر، ويقيلون عثرة العاثر، ويدفنون زلته ويطوونها طي المسامح، بل ويلقونه بالبشر ممتثلين وصية الأحنف: (إذا اعتذر إليك معتذر، فلتلقه بالبشر)، وينزهون حالهم أن تكون كحال ذاك المتكبر الذي ينتهز فرصة اعتذار المعتذر لكي يرشقه بسهام اللوم والعتاب، ويجلده بأسواط من كلمات التوبيخ والإذلال على خطأ جاء منه نادماً وزلة هو منها معتذر، جاهلاً أن من طيب معدن المرء وجليل قدره أن يعتذر ممن أخطأ عليه، ويطلب منه الصفح والعفو.
أتيتــــُك تائـــــباً مـــن كلِّ ذنــــــــبٍ وخـــيرُ النــــاسِ من أخـــطا فتـــابا أليـــس اللهُ يُســـــتعفى فــــيعــــــفو وقــــــد ملـــك العقـــوبةَ والـــــثوابا
وإذا كانت النفوس الضعيفة تأبى العفو، وتستكبر على الصفح فإن النفوس الطاهرة التي استنارت بنور الله تجد من برد اليقين بالأجر ما يطفئ لهيب النفس عندما يتطاير شررها طلباً للانتقام، فها هو ذا أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ الذي مسّه حديث الإفك في أعماق قلبه، واحتمل مرارة الاتهام لبيته وعرضه لا من الأبعدين فحسب بل حتى من قريبه (مسطح بن أثاثة)ـ رضي الله عنه ـ والذي كان أبو بكر ينفق عليه، ولكن ما يكاد الصديق يسمع دعوة ربه إلى العفو، وما يكاد يلمس وجدانه ذلك السؤال الموحي: (ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟) حتى يرتفع على الآلام، ويرتفع على مشاعر الإنسان، ويرتفع على منطق البيئة، وحتى تشف روحه وترف وتشرق بنور الله، فإذا هو يلبي داعي الله في طمأنينة وصدق فيقول: بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي، ويعيد إلى قريبه (مسطح) النفقة التي كان ينفق عليه، ويحلف: والله، لا أنزعها منه أبداً، بعد أن كان قد حلف: والله لا أنفعه بنافعة أبداً.
ولا عجب أن يكون العفو من أجمل ما تحلى به المتقون من عباد الله، فقد جاءت هذه الفضيلة في معرض بيان الصفات التي استحقوا بها التنعم في نعيم الجنة (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ).[آل عمران: 133-134].
إن شيم الكرام وخلال الفضلاء هي التي جعلت الحسن بن عليّ رضي اللّه عنهما يقول: لو أنّ رجلاً شتمني في أذني هذه، واعتذر إليّ في أذني هذه لقبلت عذره.
إذا اعتــــذر الصــــديقُ إليك يومـــاً مــن التــــــقصــــير عذْرَ أخٍ مـــقرِّ فصــــنْهُ عن جفــــائكَ، واعـفُ عنهُ فــــإنّ الصــــفحَ شـــيمـــــةُ كلِّ حرِّ
وهي التي جعلت أحدهم يقول لمن عاتبه على قبوله عذْر المعتذر:
قـــــيلَ لـي قد أســــا إليك فــــــلانٌ وقعـــودُ الفتــــى على الضـــّيم عارُقلــــتُ: قد جـــاءنا فأحـــــدثَ عذراً ديــــــةُ الذنـــبِ عـــندنا الاعتــــذارُ
وها هو ذا الحكيم يوصيك:
اقــــبلْ معـــــاذيرَ مَنْ يأتـيك معتذراً إنْ برَّ عنــــدك فيـــما قــالَ أو فجرا فقد أطـــاعكَ مَنْ أرضــــاك ظاهرُهُ وقد أجـــلّك مَنْ يعصــــــيكَ مستترا خيرُ الرجـــالِ الذي يغضي لصاحبِهِ ولـــو أرادَ انتــــصاراً منهُ لانتصرا
فيا مَن يريد أن يقيل الله عثرته، ويتجاوز عن زلته أقلْ عثرات خَلْقه، وتجاوزْ عن زلاتهم، واعلمْ أن (من وافق الله في صفة من صفاته قادته تلك الصفة إليه بزمامها، وأدخلته على ربه وأدْنته من رحمته، وصيّرته محبوباً إليه، فإنه سبحانه رحيم يحب الرحماء، كريم يحب الكرماء) كما قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ.
وليهنأ من كانت المسامحة سجيته وصفاء القلب ميزته بالاستمتاع بالحياة والتلذذ بها:
إذا ضاقَ صَدرُ المَرْءِ لم يَصفُ عَيشُهُ ومـا يَستَـطيبُ العَيـــشَ إلاّ المـُسامِحُ
راق لي