بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾
( سورة الحشر : من آية " 7" )
أي أن الله سبحانه وتعالى خالق السماوات والأرض هو الصانع ، هو الخالق ، بيده كل شيء ، أعطاك أمراً واضحاً بيناً ، قطعي الثبوت ، قطعي الدلالة ، يقول لك : اعدل بين أولادك . وتقول : هذا حديثٌ شريف والله قرأته واطلعت عليه ، وقد مر بي . القضية أخطر من ذلك ، إنه أمرٌ من عند النبي عليه الصلاة والسلام الذي فوَّضه الله عزَّ وجل أن يشرع لنا..
﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾
( سورة الحشر : من آية " 7" )
والنبي عليه الصلاة والسلام لم يشرِّع من عنده إنما كما قال الله عزَّ وجل:
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾
( سورة النجم)
" اتقوا الله واعدلوا في أولادكم" .
حديثٌ صحيح رواه البخاري ومسلم.
والحديث الآخر:
" سووا بين أولادكم في العطية ـ سووا فعل أمر من التسوية ـ فلو كنت مفضلاً أحداً لفضَّلت النساء" .
وهذا الحديث أيضاً رواه الإمام الطبراني ، إذاً حديثٌ أول ، وثانٍ ، وثالث ، يحضُّ المسلمين على أن يعدلوا بين أولادهم ، والدين تطبيق هذه السنة ، لعلك رأيته يصلي ؟ قال : نعم . قال : أنت لا تعرفه . هذه العبادات إن لم تكن مبنيةً على استسلامٍ لأمر الله وعلى طاعةٍ له ، وعلى انصياعٍ كامل في كل ما أمر ، وفي كل ما نهى ، فهذه العبادات جوفاء لا تقدِّم ولا تؤخِّر ولا قيمة لها.
النبي عليه الصلاة والسلام رفض أن يشهد على جور حينما بلغه أن أحد أصحابه فضَّل ولداً من أولاده على آخر ، والنبي عليه الصلاة والسلام يأمرنا أن نتقي الله وأن نعدل في أولادنا ، والنبي عليه الصلاة والسلام في حديثٍ ثالث ، يقول:
" سووا بين أولادكم في العطية فلو كنت مفضلاً أحداً لفضَّلت النساء
هذه النصوص الثلاثة الصحيحة التي هي الأصل في العدل بين الأولاد.
العلماء قالوا : " يحرم على المرء أن يوصي لأحدهم بأكثر مما يستحق شرعاً ، أو أن يحرمه مما يستحق ، أو أن يحرمه بعض ما يستحق" .
يحرم ، أي دخلنا في الحرمة ، هناك حرمة ، وهناك كراهةٌ تنزيهية، وهناك كراهةٌ تحريمية ، وهناك أمرٌ مباح ، وهناك سُنَّةٌ غير مؤكدة ، وسنةٌ مؤكدة ، وواجب ، وفرض . أن تحرم أحد أولادك من حقه ، أو من بعض حقه ، أو أن تعطي أحد أولادك فوق حقه ، فهذا مما يحرُم شرعاً ، فهذا الذي سيغادر الدنيا كيف سيلقى الله عزَّ وجل ؟ يلقاه وقد ظلم أولاده ، وقد فضَّل بعضهم على بعض ، وقد حابى بعضهم على حساب بعض ؟!! إن هذا يزيد البعيد بعداً ، قد يقول قائل: إن هذا الابن لا يَبَرُّني . إن هذا التصرُّف من قبل الأب يزيد الابن البعيد بعداً ، وتنشأ عداواتٌ بين الأخوة بعد الوفاة لا يعلمها إلا الله. لذلك الأولى أن تبقى على السُنَّة ، السنة منهج ، طريق مستقيم ، فالإنسان مهما اجتهد ، وفكر ، وتأمل ، ليس أعظم فهماً من خالقه ومربية الذي شرع له هذا الدين.
الآن عندنا نقطة دقيقة : " ويجب أن يعطي أبناؤه في الوصية مثل ما أخذه أحدهم زيادةٌ عنهم" .
فأحياناً ولد يأخذ نصيباً كبيراً من والده بحكم كونه أكبر أولاده ، فيزوجه ، يشتري له بيتاً، ويغادر الدنيا وعنده أربعة أولادٍ آخرون ، هؤلاء سوف يقتسمون الإرث بالتساوي مع أخيهم الأكبر الذي أخذ هذه الدفعة الكبيرة ، الأولى أن يسوِّي بينهم في العَطية ، بمعنى أنه إذا أعطى الأخ الأكبر ، فيجب أن يعطي كلاً من الصغار بقدر ما أعطى الأكبر ، هذا أيضاً حكم الله عز وجل ، أي يجب أن يتم التوازن بين الأولاد في تقسيم الميراث.
شيءٌ آخر : لا يحق للأب أن يعطي في وجوه الخير أكثر من الثلث، والثلث كثير . أي أنه إذا كان مندفعاً لفعل الصالحات فيدع ورثته عندئذٍ من بعده عالةً يتكففون الناس وهذا لا يرضي الله عزَّ وجل أبداً ، لا يرضيه أبداً . فأحياناً يقول لك : يجب أن أوصي بثلث المال للمساجد . وقد ترك بيتاً واحداً ، ويسكنه أولاده ، فمن أجل أن توصي للمسجد فسوف ترغم أولادك على بيع هذا البيت ، فإذا كان هناك بيت وحيد يؤيهم ، ففي مثل هذه الحالة لا ينبغي أن توصي لا للمسجد ولا لغيره.
" لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم فقراء يتكففون
من سنن النسائي : عن " السيدة عائشة" )
هذا توجيه النبي عليه الصلاة والسلام . فسواء في حياته ، أو بعد مماته فلا ينبغي أن يعطي أحداً فوق ما يستحق ، ولا أن يحرم أحداً حقه ولا جزءاً من حقه ، وإذا أعطى أحداً دفعةً كبيرة ، فينبغي أن تدخل هذه في حساب الإرث ، أما أن تكون خارج الحساب وهو أعطاه بيت ، وزوجه ، وفتح له محلاً ثم توفى ، وترك أربعة أولاد آخرين ، فما تبقى لهؤلاء الخمسة ، صار في تفاوت كبير جداً ، الأولى أن يكون لكل ولدٍ حقٌ معلوم.
إلا أنه في حالات أخرى ، قد يكون الأب يعمل مع والده ، هذا له جُهد نظير عمله ، فمثلاً ولد في البيت لا يعمل ، وولد يعمل صار هناك تفاوت كبير جداً ، فإذا أخذ الذي يعمل نصيب الجهد واقتسم مع إخوته الباقين بالتساوي ، ما تبقى فهذا أيضاً محض عدلٍ.
الآن من توابع هذا الحق أن تدخل السرور على أولادك ، فقد ورد أن مر قومٌ من الأعراب على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : تقبلون صبيانكم ؟ قالوا: نعم ، فقالوا : لكنا والله لا نقبل . فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" وما أملك إن كان الله قد نزع منكم الرحمة"
( رواه ابن ماجة)
أي أن هناك عطاءً معنوياً ، كان الحديث قبل قليل عن العطاء المادي ولكن عندنا عطاء معنوي ، فالابن أحياناً بحاجة إلى عطف ، بحاجة إلى قلب كبير ، بحاجة إلى اهتمام ، أحياناً لمسة حنانٍ من الأب أو الأم تغني عن آلاف الليرات ، الإنسان مفتقر إلى العطف ، لذلك هذا الذي ينشأ في حجر أمه وأبيه يكون في المستقبل متوازناً نفسياً ، أما الذي ينشأ في بيت فيه خصومات ، وفيه شقاق ، وفيه طلاق ، هذا الطفل ينشأ عنده خلل في عواطفه ، فلذلك النبي عليه الصلاة والسلام أشار إلى أن من واجبات الأب تجاه أبنائه ليس أن يطعمهم ، أو أن يسقيهم ، أو يكسوهم فقط بل هناك واجبٌ آخر وهو أن يغمرهم بالعطف والحنان ، الاهتمام بطعامه وبشرابه ، وبغرفته وبحاجاته ، وبملابسه ، هذا الاهتمام هو الذي يزرع العطف والحب في قلب الأبناء ، فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما أنكر هذا الأعرابي تقبيل الولد ، قال عليه الصلاة والسلام:
" وما أملك إن كان الله قد نزع منكم الرحمة"
( رواه ابن ماجة)
شيءٌ آخر ، النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يَخُصَّ البنات بشيءٍ من العطف الزائد ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام نشأ في بيئةٍ كانت البنت فيها مظلومة ، ويكفي أن تقرءوا قوله تعالى:
﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ( بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾
( سورة التكوير)
النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
" أكرموا النساء فإنهن المؤنسات الغاليات" .
" اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا"*
( من صحيح مسلم : عن " أبي هريرة" )
واستوصوا بالنساء خيراً قالها كثيراً في حياته ، فلذلك هناك أحاديث خاصة بالنساء.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من عال جاريتين - اي ابنتين صغيرتين - حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو هكذا ، وضم أصبعيه كناية عن قرب الجوار في الجنة"
( رواه مسلمٌ في صحيحه)
طبعاً كل من عنده بنتان صغيرتان يرعاهما ، لكن بشرط أن ينشئهما تنشئةً طاهرة ، بشرط أن ينشِّئهما على حب الله ورسوله ، وعلى تلاوة كتابه ، بشرط أن ينشِّئهما وفق الشرع، أما إذا سيب أمرهما وجعلهما تعيشان كما يعيش بقية الفتيات غير الملتزمات ، فهذا ما زاد عن أن أطعم هاتين البنتين فقط. والحديث الذي تعرفونه سابقاً أن البنت إذا نشأت نشأةً منحرفة بتشجيعٍ من أبيها ، أو بغفلةٌ منه ، أو بإهمالٍ لها ، ورأت مصيرها في النار ، تقول: " يا رب لا أدخل النار حتى أدخل أبي قبلي " . لقد كان هو السبب ، فلذلك الأبوة مسؤولية.
من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو هكذا وضم أصبعيه كنايةً عن قرب الجوار في الجنة"
( رواه مسلمٌ في صحيحه)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت:
" جاءت امرأةٌ ومعها ابنتان لها تسألني ـ أي شيءً ـ فلم أجد عندي شيئاً ـ انظر بيت سيدنا رسول الله سيد الخلق حبيب الحق ، نبي هذه الأمة ليس في بيته إلا تمرةٌ واحد ـ فلم أجد عندي شيئاً غير تمرةٍ واحدة أعطيتها إيَّاها هذه الأم أخذتها فشقتها بين ابنتيها ولم تأكل منها شيئاً ، فدخل عليه الصلاة والسلام على أثر ذلك فحدثته حديثهما فقال عليه الصلاة والسلام:
" من ابتنى - أي من كان له بنت - من هذه البنات بشيءٍ فأحسن إليهن كن له ستراً من النار"
في رواية:
" من ابتلي " أنه بلاء وليس مصيبة ، البلاء من معانيه الامتحان ، " مَنِ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ " . " أو من ابتنى ـ من البنوة أي من كانت له بنت من هذه البنات ـ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ"*
( من صحيح البخاري : عن " السيدة عائشة" )
هذا الحديث وحده يكفي كي يدفع الآباء إلى الإحسان إلى بناتهم ، فلعل الله سبحانه وتعالى يرحمنا جميعاً بالإحسان إلى أولادنا وبناتنا.
وعن عوف بن مالكٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" من كانت له ثلاث بناتٍ ينفق عليهن حتى يَبِنَّ - أي بمعنى يبتعدن عنه بمعنى يتزوجن - أو يمُتن كن له حجاباً من النار" .
( رواه البيهقي)
في الحديث الأول : بنتان يحسن إليهن وهنا ثلاث بنات ينفق عليهن.
وعن عوف بن مالكٍ أيضاً قال عليه الصلاة والسلام:
" ما من عبدٍ يكون له ثلاث بناتٍ فينفق عليهن حتى يَبِنَّ أو يمُتن إلا كن له حجاباً من النار فقالت امرأة : يا رسول الله وابنتان قال : وابنتان" .
أي أن ملخص الملخص إذا جاء ملك الموت ينبغي أن يكون معك عملٌ تلقى الله به ، عمل طيِّب ، يا رب ربيت هاتين الابنتين تربيةً صالحة، تربيةً إسلامية ، علَّمتهما كتاب الله ، زوَّجتهما من مؤمنين ، أنفقت عليهما ، حتى أدخلت على قلبيهما السرور ، هذا عمل ، أو ربيت ولدين فصارا صالحين من بعدك ، هذا عمل ، أو دعوت إلى الله هذا عمل ، أو تركت علماً نافعاً هذا عمل ، وكل ذلك عمل صالح.
فدائماً لديك سؤال كبير كبير كبير : ماذا أعددت للقاء الله عزَّ وجل ؟ قال له : " جئتك لتعلمني من غرائب العلم قال : فماذا صنعت في أصل العلم ؟ قال : وما أصل العلم ، قال : هل عرفت الرب ؟ قال : ما شاء الله . قال : فماذا صنعت بحقه ؟ قال : هل عرفت الموت ؟ قال : ما شاء الله قال: فماذا أعددت له ؟"
فهذا السؤال ، والله الذي لا إله إلا هو ينبغي أن يكون هذا السؤال في مكانٍ بارزٍ من البيت : ماذا أعددت للقاء الله عزَّ وجل ؟
أكلت فالمأكولات مستهلكات ، سكنت هذا البيت مستهلك ، قمت بهذه النزهة استهلاك ، لكن نريد الاستثمار ، فأنت معك مبلغ من المال ، سنشبه الوقت بمبلغ ضخم من المال ، هذا المبلغ إما أن تستهلكه وإما أن تستثمره ، فكل عملٍ ينتهي عند الموت استهلاك ، وكل عملٍ يستمر إلى ما بعد الموت استثمار ، فهذا السؤال الكبير : ماذا أعددت للقاء الله عزَّ وجل ؟
هل أعددت لهذا اللقاء استقامةً تامة ؟ هل أعددت حباً لله ورسوله ؟ هل أعددت حفظاً وفهما لهذا الكتاب وتعليماً له ؟ هل أعددت أمراً بالمعروف أو نهياً عن المنكر ؟ هل أعددت تربية أولادٍ تربيةً صالحة ؟ ماذا أعددت لهذا اللقاء ؟
مراجعة وتنسيق ناطق ابراهيم العبيدي